الرأي

من وستفاليا إلى السودان: توظيف الخطاب الديني وآليات تفكيك الدولة الوطنية

تركي القبلان


منذ القرن السابع عشر لم تكن الحروب الدينية في أوروبا مجرد صدامات عقدية خالصة إنما شكلت مسرحا جيوسياسيا معقدا استخدمت فيه اللغة الدينية كغطاء لمعادلات قوة أعمق. حرب الثلاثين عاما (1618–1648) تمثل المثال الأوضح على هذا النمط؛ إذ بدأت بصراع ذي عنوان ديني لكنها سرعان ما تحولت إلى ساحة تنافس إقليمي ودولي أدت في نهاية المطاف إلى تفكيك إمبراطوريات قائمة وإعادة تعريف مفهوم السيادة والدولة عبر ما سمي لاحقا بالنظام الوستفالي. هذه الديناميكيات التاريخية تعود اليوم في سياق مغاير جغرافيا وزمنيا لكنها متشابهة بنيويا، في حالة السودان المعاصر، حيث يعاد تدوير الخطاب الديني بوصفه أداة لتفكيك الدولة الوطنية القائمة لا لمنع تشكلها فحسب بل لتقويض أسسها المؤسساتية والرمزية من الداخل.

في أوروبا القرن السابع عشر لم تكن المشكلة في التنوع الديني بحد ذاته بل في تحويله إلى رواية وجودية شاملة تسقط التعقيدات السياسية والاقتصادية في ثنائية مطلقة: كاثوليك في مواجهة بروتستانت. هذا التأطير أسهم في تعطيل دور المؤسسات الوسطية وأضعف إمكانات التسوية المحلية وفتح الباب واسعا أمام «التدخلات الخارجية» التي لم تكن معنية بالدين بقدر ما كانت معنية بإعادة توزيع النفوذ داخل القارة. السودان اليوم يشهد نمطا مشابها حيث يعاد تعريف الصراع عبر توصيفه كحرب ضد «الإخوان» أو ضد مشروع أيديولوجي بعينه بما يسمح بإضفاء شرعية أخلاقية وأمنية على العنف، وباستدعاء دعم خارجي يرى في هذا العنوان الديني مبررا لتدخله بغض النظر عن أثر ذلك على وحدة الدولة أو مستقبل المجتمع السياسي السوداني.

تكمن خطورة هذا النموذج في أن السودان ليس في طور تشكل دولته كما كانت كيانات أوروبا في القرن السابع عشر بل هو دولة قائمة ذات إرث مؤسسي معترف به دوليا بما يشمله ذلك من جيش وأجهزة إدارية وتمثيل قانوني دولي. التفكيك هنا ليس ولادة مؤلمة لنظام جديد بل تراجع رجعي عن منطق الدولة الحديثة نفسها. هذا ما يجعل الكلفة أعلى والنتائج أكثر كارثية، إذ إن انهيار دولة قائمة لا ينتج فراغا فقط، بل يولد سلطات موازية ومناطق نفوذ شبه سيادية تتغذى على اقتصاد الحرب، وترتبط عضويا بداعمين خارجيين يصعب لاحقا تفكيك شبكات مصالحهم.

تسهم أفكار «تشارلز تيلي» في إضاءة هذا المسار على نحو كاشف فتيلي يرى أن بناء الدولة الحديثة في أوروبا ارتبط تاريخيا بأربعة أنشطة مركزية: (صناعة الحرب، وصناعة الدولة، والحماية، والاستخراج). الدولة وفق هذا التصور تبلورت لأنها نجحت في تحييد المنافسين داخليا وخارجيا واحتكرت القوة وطورت في الوقت ذاته القدرة على استخراج الموارد اللازمة لتمويل هذا الاحتكار. غير أن ما يحدث في السودان اليوم هو النقيض البنيوي لهذا النموذج؛ فبدلا من أن تقود الحرب إلى مركزية السلطة تؤدي عسكرة الصراع وتدويله إلى تآكل احتكار القوة وانهيار قدرة الدولة على جمع الموارد، وتحويل «الحماية» من وظيفة دولة إلى خدمة «زبائنية» تقدمها مجموعات مسلحة مقابل الولاء أو المنفعة.

الخطاب الديني يلعب هنا دورا محوريا في تعطيل منطق الدولة وفق تشارلز تيلي، فمن جهة يشرعن داخليا استخدام العنف خارج الإطار القانوني عبر تصويره كضرورة وجودية أو دفاع أخلاقي. ومن جهة أخرى يسهل شرعنة الدعم الخارجي إذ تجد قوى إقليمية أو دولية في هذا الخطاب ما يبرر انخراطها تحت عنوان «الوقاية الأمنية» أو «مكافحة التهديد الأيديولوجي». وبهذا المعنى لا يعود الصراع محكوما باعتبارات بناء سلطة مركزية بل يتحول إلى سوق نفوذ تتنازع فيه قوى محلية مدعومة من الخارج لكل منها روايتها ومواردها ومناطق سيطرتها.

تاريخ حرب الثلاثين عاما يقدم دروسا إضافية قابلة للإسقاط على الحالة السودانية. أول هذه الدروس أن الإيديولوجيا حين تتحول إلى غطاء شامل للصراع تطيل أمد الحرب لأنها ترفع كلفة التراجع والتسوية. ثانيها أن السرديات الوجودية تضعف المؤسسات الوسيطة (القضاء، والإدارة، وآليات الوساطة المجتمعية) لأنها تسقط منطق التفاوض العقلاني لصالح منطق الإقصاء الكامل. وثالثها أن تكريس مناطق حكم فعلي تحت سيطرة قادة عسكريين أو فاعلين مسلحين يخلق واقعا يصعب التراجع عنه حتى بعد توقف القتال، إذ تتحول هذه المناطق إلى «أملاك سياسية» مرتبطة باقتصاد وسلاح وتحالفات عابرة للحدود.

الأخطر من ذلك أن أي مسار سلام يبنى في ظل هذا السياق قد يتحول إلى تسوية نفوذ أكثر منه مشروع إعادة بناء دولة. وكما انتهت المفاوضات الأوروبية في القرن السابع عشر إلى اعتراف متبادل بين قوى لا إلى عدالة شاملة، فإن خطر السودان يكمن في أن تفرض عليه ترتيبات خارجية تضمن مصالح داعمين إقليميين ودوليين من دون معالجة الشروط البنيوية لبناء دولة سودانية جامعة تستعيد احتكار القوة، وتعيد دمج المجتمع سياسيا وتفكك اقتصاد الحرب بدلا من تقنينه.

المقارنة التاريخية لا تهدف إلى المماثلة السطحية بل إلى التنبيه إلى منطق متكرر في التاريخ السياسي: حين يؤطر الصراع بلغة دينية شاملة ويفتح أمام التدخل الخارجي تتراجع فرص بناء الدولة وتتقدم احتمالات تفكيكها. في هذا السياق يبدو «الدرس الوستفالي العكسي» في حالة السودان واضحا: الحرب التي تغذى من الخارج وتدار عبر فاعلين متعددين ولا تقترن بمشروع مركزي لاستعادة احتكار العنف وبناء المؤسسات لا تلد دولة حديثة، بل تنتج فسيفساء نفوذ يصعب إعادة توحيدها إلا بكلفة سياسية واجتماعية باهظة.

بهذا المعنى: لا يمثل استخدام الخطاب الديني في الصراع السوداني مجرد انحراف لغوي أو تعبوي إنما آلية عملية لإعادة تشكيل السلطة داخليا وتحويل البلاد إلى ساحة صراع بالوكالة. والرهان الحقيقي على الخروج من هذا المأزق لا يكمن في استبدال خطاب بآخر بل في تفكيك روايات الاستثناء التي تبرر العنف واستعادة منطق الدولة بوصفها إطارا قانونيا ومؤسساتيا جامعا، لا كأداة في صراع هويات أو مصالح عابرة للحدود.