الرأي

من العلم النافع للنعمة إلى الجهل الدافع للنقمة

عبدالله علي بانخر


في عصر سيادة المعلومة، حيث أصبحت المعرفة بضغطة زر أقرب إلينا من أي وقت مضى، يواجه الإنسان مفارقة غير مسبوقة: نحن نغرق في محيط من البيانات، لكننا نعاني من «مجاعة حقيقية في الحكمة».

لقد تحولت مشكلتنا من «نقص المعرفة» إلى «تخمة المعلومات غير النافعة». فكيف نميز بين ما يضيء دروبنا وبين ما يستنزف أعمارنا؟

هذا المقال يدعونا لإعادة اكتشاف نعمة الهدي النبوي الشريف في دعائه صلى الله عليه وسلم «نعوذ بالله من علم لا ينفع»، ويستنبط منها الحكمة الضمنية المعاصرة: «ورب جهل لا يضر». إنه دعوة لتطبيق «ريجيم معرفي» صارم يركز على الفلترة الذكية، وإتقان فن التجاهل الإيجابي الذي يحمي عقولنا وقلوبنا من ضجيج العالم الرقمي، لنعود إلى العلم الذي يثمر عملا وسكينة.

مفارقة العصر الرقمي

نعيش اليوم مفارقة تاريخية لم تشهدها البشرية من قبل. ففي الوقت الذي أصبحت فيه المعلومة أقرب إلينا من حبل الوريد، بضغطة زر واحدة على شاشات هواتفنا، نعاني من «مجاعة» حقيقية في الحكمة. لقد غرقنا في محيط من البيانات، لكننا عطشى للمعنى.

في خضم هذا الطوفان، تبرز تلك العبارة الخالدة المستوحاة من الهدي النبوي الشريف كمنارة توجيه «نعوذ بالله من علم لا ينفع»، وتقابلها تلك الحكمة الضمنية التي نحتاجها بشدة اليوم «ورب جهل لا يضر».

لم تعد المشكلة اليوم في «تحصيل» المعرفة، بل في «فلترتها». كيف نميز بين العلم الذي يبني ذواتنا، وبين الغثاء الذي يستنزف أعمارنا؟ وكيف نتقن «فن التجاهل» الذكي في عالم يصرخ طلبا لانتباهنا في كل ثانية؟

أولا: «علم لا ينفع»: فخ التخمة المعلوماتية

قديما، كان العلم غير النافع محصورا في فلسفات نظرية عقيمة أو علوم ضارة. أما اليوم، فقد اتخذ «العلم الذي لا ينفع» أشكالا عصرية مغرية عبر منصات التواصل الاجتماعي، وحولنا إلى كائنات مستهلكة للمعلومات دون هضمها أو الاستفادة منها.

وهم «الموسوعية»

(متلازمة التمرير اللانهائي)

كم ساعة نقضيها يوميا في التمرير اللانهائي (Doom-scrolling) على تطبيقات التقنية الحديثة مثل X أو فيس بوك وغيرهما من «تيك توك» أو «إنستغرام»؟ نشاهد مقطعا عن كيفية صناعة الفخار في الصين، يليه مباشرة خبر عن طلاق ممثلة، ثم نصيحة طبية مشكوك في صحتها.

في نهاية اليوم، الأدمغة محشوة بآلاف الصور وربما أكثر والمعلومات متناثرة الأطراف والأبعاد. هل ازددنا حكمة بذلك؟ هل تحسنت مهاراتنا؟ بالتأكيد الإجابة «لا». فهذا هو العلم الذي يستهلك وقتك وطاقتك الذهنية دون أي عائد حقيقي. إنه علم يورث التشتت والقلق لا السكينة.

علم «المشاركة» و«إعادة النشر»

بلا عمل

أخطر أنواع العلم غير النافع هو الذي يتحول إلى مجرد زينة اجتماعية. نرى حسابات تتناقل الحكم والمواعظ والنصائح الأخلاقية، وصاحبها أبعد الناس تطبيقا لها في واقعه.

أن نعرف أضرار الغيبة ونشارك منشورا عنها، ثم تدخل في مجموعة «واتساب» لتخوض في أعراض الناس، فهذا علم أصبح حجة عليك. لقد تحولت المعرفة هنا إلى أداة للنفاق الاجتماعي الرقمي بدلا من تزكية النفس.

ثانيا: «جهل لا يضر»:

نعمة الفلترة الذكية

في المقابل، يأتي الشق الثاني من المعادلة ليعيد لنا توازننا النفسي. في هذا الضجيج الرقمي، الجهل ببعض الأمور ليس نقيصة، بل هو ضرورة للحفاظ على الصحة العقلية والتركيز على ما يهم. هذا هو «الجهل المحمود» أو «التجاهل الانتقائي»: الجهل بـ«الترند» السفهي

تفرض علينا المنصات ما يسمى بـ»الترند» (Trending)، وتوهمنا أن عدم معرفتنا به هو تخلف عن الركب. الحقيقة أن 90% من هذه الترندات هي زوابع في فنجان؛ خلافات بين مشاهير سطحيين، أو تحديات سخيفة لا قيمة لها.

تخيل أنك قضيت أسبوعا كاملا جاهلا تماما بآخر «هوشة» بين اثنين من مشاهير «سناب شات». ماذا خسرت في دينك أو دنياك؟ لا شيء، بل كسبت راحة بالك ووفرت وقتك لما هو أنفع. هذا جهل صحي جدا.

الجهل بتفاصيل حياة الآخرين (الترياق ضد الـFOMO)

لقد فتحت وسائل التواصل أبواب البيوت، وأصبحنا نرى تفاصيل حياة الناس؛ ماذا يأكلون، أين يسافرون، وماذا اشتروا. هذا العلم بتفاصيلهم يولد شعورا بالنقص، والحسد، والخوف من فوات الشيء (FOMO)، وهو مصطلح صيغ لأول مرة عام 1996 بواسطة الدكتور دان هيرمان.

قرارك الواعي بعدم متابعة المؤثرين الذين يستعرضون حياتهم المترفة، وجهلك بما يفعلونه في عطلاتهم، هو جهل يحمي قلبك من أمراض المقارنة، ويجعلك تركز على نعم الله في حياتك أنت.

نعمة الاستمتاع بالتفويت (JOMO)

في مقابل الـ(FOMO)، تبرز متلازمة الاستمتاع بالتفويت (JOMO - Joy of Missing Out) كغاية للحكمة في هذا العصر. بدلا من الشعور بالنقص لخسارة معلومة سطحية أو ترند عابر، نختار أن نستمتع بالوقت والسكينة التي يوفرها لنا هذا التجاهل. إن تحويل «الجهل الذي لا يضر» إلى فرح بالتفويت هو أرقى مراتب الفلترة المعرفية؛ أن تدرك أن ما فوت عليك هو في الحقيقة نصر لوقتك وذهنك.

الخلاصة: نحو «ريجيم» معرفي (تنقية العقل)

إن الحكمة في هذا العصر لا تكمن في أن تعرف كل شيء، بل في القدرة الشجاعة على قول «لا يهمني» أمام طوفان المعلومات السفهية.

نحن بحاجة إلى تطبيق «ريجيم قاس» على عقولنا، تماما كما نفعل مع أجسادنا:

- اسأل نفسك قبل الضغط: قبل أن تفتح رابطا أو تشاهد مقطعا، اسأل: هل هذا سيقربني إلى الله؟ هل سينفعني في وظيفتي؟ هل سيحسن علاقتي بأسرتي؟ إذا كانت الإجابة «لا»، فتجاهله فورا (جهل لا يضر).

- ابحث عن العلم المغير: العلم النافع هو الذي إذا دخل القلب غيره، وإذا دخل العقل نوره، وانعكس فورا على الجوارح عملا وسلوكا.

- مارس الاستمتاع بالتفويت (JOMO): حول قرارك الواعي بالتجاهل إلى متعة وسكينة. اختر أن تستثمر وقتك في علاقاتك الحقيقية، أو في تطوير نفسك، أو في العبادة، بدلا من صرفه على ما يتلاشى بمجرد إغلاق الشاشة.

الخلاصة الختامية

يجب أن نعي أن المعركة الحقيقية اليوم ليست مع الجهل، بل مع المعلومة غير المجدية. إن نجاة العقل والقلب تكمن في قدرتنا على التفرقة بين العلم الذي يثري، والغثاء الذي يستنزف. لنكن حكماء في فلترتنا، شجعان في تجاهلنا. فالحياة قصيرة جدا لنهدرها في تصفح ما لا يبقى، بينما كنوز الحكمة تنتظر من يبحث عنها بوعي وتركيز.

فلتكن بوصلتنا دائما نحو العلم الذي ينير مآلنا، ولنعتنق الجهل الواعي الذي يقينا شر النقمة، فننعم بالسكينة ونسلم من ضياع العمر!