الرأي

معرض الشارقة للكتاب... حين يتحول التوقف إلى معنى

عبدالله فدعق


زرت معرض الشارقة الدولي للكتاب مرتين، يفصل بينهما 6 أعوام؛ الأولى عام 2019 في دورته الـ38، والثانية هذا العام 2025 في دورته الـ44، وبين الزيارتين مسافة تكشف كيف تتغير علاقة الإنسان بالمعرفة، وكيف تتبدل نظرة القارئ إلى الكتاب؛ وفي الزيارة الأخيرة، جلست بهدوء، أوقع أحدث إصدار لي، وهو كتاب «ورقات ومشكلات العصر»؛ في لحظة إنسانية حركتها رغبة اللقاء بقراء كرام يشاركونني الهموم والأفكار.

معرض الشارقة، مشروع ثقافي ممتد منذ تأسيسه عام 1982، حين انطلقت منه رؤية واضحة لخلق مجتمع قارئ، وعلى مدى أكثر من 4 عقود، تحول إلى منصة معرفية عالمية تعزز التبادل الثقافي، حتى غدا اليوم «ثالث أكبر معرض للكتاب في العالم» من حيث الحجم والتنوع والحضور الدولي؛ وتجاوزت مبيعاته حاجز الـ50 مليون دولار، وامتد 11 يوما، التقى فيها ملايين الزوار مع مئات الناشرين والمؤلفين من مختلف القارات، في تظاهرة جمعت بين المعرفة والصناعة الثقافية.

من وحي التوقف الهادئ في المعرض، بدا لي أن الوقوف في معرض الكتاب ليس انتقالا بين أجنحة، بل لحظة يختبر فيها الإنسان صلته الأعمق بالمعرفة؛ فالمعرض «أيا كان موقعه» ليس مجرد مساحة تزار، بل ساحة يختبر فيها سؤال يتجدد مع كل عام، وهو هل ما زال الكتاب قادرا على تشكيل وعينا، أم أصبح حضورنا للمعرض عادة اجتماعية لا تمتد إلى جوهر القراءة؟

هنا، أكتب في محاولة لفهم المشهد الثقافي من داخله؛ فمن يتجول بين القاعات يلحظ التفاوت الكبير بين كتاب رصين بني على فكرة واضحة، وآخر خرج ليلحق موجة لا فكرة، وأثناء التجول، يتكرر مشهد زائر مسرع، يقلب العناوين بعينه، وبين مهتم بالبحث عن كتاب يمكن أن يضيفه إلى ما لديه من تجارب، وبين من يبحث عن الكتب السهلة، وبين من يتبع ما يوافق حالته النفسية، وهو ما يؤكد أن الفارق بين اقتناء الكتب واقتناء المعرفة، هو في جوهر الطريقة التي نتعامل بها مع الحياة؛ ويبلغ القلق مداه حين تنحاز بعض دور النشر إلى ما يطلبه السوق، حتى وإن كان ذلك على حساب القيمة، وعندها يصبح الكتاب ابن «الموجة»، لا ابن «الإبداع».

الكاتب، هو الآخر، حين يحضر الفضاءات المذكورة سابقا، قد يأتي ليزاحم الأضواء، وقد يأتي ليقترب من قارئه الحقيقي، واللحظة الإنسانية الصادقة بين الكاتب وقارئه أعمق من المنصات، وأبقى من الصور؛ فالكتاب جسر بين وعيين، لا معاملة بين بائع ومشتر، وهذه المساحة الهادئة هي التي تمنح أي معرض للكتاب معنى يتجاوز الشكل إلى الجوهر، وهي التي تبرز الحاجة إلى أن تتحول المعارض من موسم للبيع إلى موسم للتفكير، وأن تعود القراءة فعلا يوميا، لا زيارة موسمية، وأن تصمم البرامج الثقافية لتأسيس الوعي، لا لاستعراض الحضور؛ فالمعارض قادرة إن امتلكت القصد، على إعادة تشكيل الذائقة العامة، وإحياء مكانة الكتاب الرصين الذي يبقى أثره وإن خف ضجيجه، وإذا كان للمعارض دور تربوي، فإن عليها أن تسهم في بناء الحس النقدي لدى القارئ، وتشجيع الحوار لا التكديس، وتقديم المعرفة بوصفها مشروعا ممتدا لا مناسبة عابرة؛ فالمعارض، في صورتها الناضجة، ليست مكانا لشراء الكتب فحسب، بل مساحة لإعادة بناء العلاقة بين الإنسان والقراءة؛ علاقة تذكره بأن الكتاب مرآة تعكس ما فيه، وتضيء له ما غاب عنه؛ ولن تبلغ المعارض غاياتها ما لم تفتح فيها مساحات للإجابات عما يحتاجه الإنسان لينعم بإيجابيات المتغيرات، وينجو من العكس.