الرأي

الخواء وراء الماركات: كيف تبتلعنا ممتلكاتنا الصغيرة؟

نوال حسن المطيري


في زمن يتسابق فيه الجميع لإثبات الذات، لم تعد القيمة تقاس بالإنجاز أو المعرفة، بل بالانشغال بالممتلكات الصغيرة: حذاء، حقيبة، عطر، أو قطعة ملابس تشترى بالأقساط. ما كان يوما وسيلة لتسهيل الحياة تحول إلى معيار صامت يحدد مكانة الإنسان وينحت صورته أمام الآخرين. شيئا فشيئا، ابتلعتنا هذه الأشياء، وأضعنا أهم ما نملك: إدراك قيمة ذواتنا الحقيقية.

لقد أصبحت المقتنيات أداة لقياس الإنسان. لم نعد نسأل: ماذا يفعل؟ كيف يعيش؟

بل: ماذا يملك؟ وما الماركة التي يرتديها؟

حتى إن البعض يقترض لاقتناء ما لا يناسب وضعه المادي، فقط ليظهر كأنه جزء من دائرة النجاح. وهكذا يصبح الإنسان رهينة لما يملك؛ تتبدل الأدوار، فيخدم الأشياء بدل أن تخدمه.

كل خطوة نحو شراء جديد تحمل رسالة مبطنة:

«انظروا إلي... أنا موجود».

هذا الانشغال المستمر يتصاعد مع مرور الوقت، حتى تغيب القدرة على التوقف والتأمل. بدل أن تقاس قيمتنا بأخلاقنا وصفاتنا وإنجازاتنا، صارت تقاس بما نحمله، بما نرتديه، وبما يتغير في خزانة ملابسنا كل موسم. لكن كل هذه المظاهر تترك خواء داخليا لا يملؤه أي شيء مادي؛ فالفراغ الروحي لا يملؤه حذاء باهظ أو حقيبة فاخرة مهما ارتفع ثمنها.

ولأن هذه القيم المادية لا تتوقف عند حدود الذات فحسب، فإنها تمتد لتؤثر في نظرتنا للآخرين أيضا. يصبح الحكم بالمظاهر عادة يومية؛ نرى الشخص الفقير ماديا فنفترض أنه أقل قيمة، بينما قد يكون أغنى من الداخل. ونرى من يحمل أغلى الحقائب فنظنه أكثر وعيا، رغم أنه ربما يفتقر إلى البصيرة. هكذا يتحول الناس في أعيننا إلى فئات تصنف حسب ما يملكون، لا حسب ما هم عليه. ومع هذا التشويه في معايير القيمة، نعيش في خوف دائم من الفقد والمقارنة، ونسقط بلا وعي في دائرة شراء لا تنتهي.

واللافت أن هذا التعلق بالأشياء يتناقض تماما مع حاجتنا العميقة للسكينة. فكلما كثرت الأشياء حولنا، كثر القلق عليها. نتعلق بالمال والماركات والهواتف، وننسى أنها وسائل، لا هويات. وحين تتحول الوسائل إلى غاية، نفقد قدرتنا على رؤية أنفسنا بصدق، ونبتعد عن قيمنا الأساسية وعن الشعور الحقيقي بالرضا.

لا يعني هذا التخلي عن الممتلكات؛ فالمال والأشياء ضروريان. لكن الخطر يبدأ عندما نربط قيمتنا بها. الشخص الحر هو من يستخدم الأشياء دون تعلق، لا من يتركها تتحكم به. أما من يجعل حياته دائرة من الشراء والمقارنة، فلن يجد في النهاية إلا زيادة في التوتر الداخلي بدل الطمأنينة التي يبحث عنها.

وعبر وسائل التواصل، تتكدس الصور: آخر موديل... حقيبة جديدة... سفر فاخر... اقتناء معلن ومكرر. ما نظنه تميزا ليس إلا محاولة لسد فراغ لا تملؤه الماديات. فالسعادة القائمة على المظاهر سعادة هشة، تزول مع أول فقد أو أول شخص يمتلك أكثر.

وهنا تظهر الحاجة لإعادة ترتيب أولوياتنا؛ بأن نرى أنفسنا كما نحن، لا كما تظهرنا الماركات. أن نقيم الآخرين بأخلاقهم وقيمهم، لا بمظاهرهم. وأن نبحث عن السكينة داخلنا، لا في الأشياء حولنا. عندها فقط نتخلص من الخواء، ونعيش بعمق واتزان.

في النهاية، ليست الأشياء عدوا لنا؛ بل التعلق بها. الحقيبة أو الهاتف أو الحذاء ليسوا مشكلة... بل اعتقادنا أنهم يمنحوننا قيمة. حين ندرك ذلك، نتحرر من عبودية المظاهر، ونقترب من حقيقتنا، ونمنح الآخرين نظرة أصدق وأرحم. فربما السلام الحقيقي لا يكمن في ما نملكه، بل في ما نحمله في داخلنا، وفي ما نقدمه للعالم من إنسانية ووعي.