الكويت التي لم أعرف
السبت / 8 / جمادى الآخرة / 1447 هـ - 21:14 - السبت 29 نوفمبر 2025 21:14
في زيارتي الأخيرة لدولة الكويت استجابة لدعوة معهد المرأة للتنمية والسلام حيث شاركت بورقة حول دور المجتمع المدني في التنمية المستدامة، وقدمتها في منتدى الكويت الأول للحوار الاجتماعي وتعزيز الوحدة الوطنية في دول مجلس التعاون الخليجي، والذي جاء تحت شعار «السلام أمان الشعوب»، تسنى لي رؤية الكويت بشكل أكثر عمقا، وهو ما افتقدته في زياراتي السابقة على قلتها، ومحدودية وقتها، وتباعدها زمنا أيضا، حيث اقتصر وجودي على المشاركة في الحدث الذي أتيت إليه، كما انحصرت مشاهداتي على أجزاء محدودة في إطار الحيز المكاني الذي كنت فيه، وهو ما أفقدني التعرف على الكويت بشكل أوسع، وجعلني أتصور بأن الكويت التي شكلت بدايات وعيي المعرفي خلال الثلث الأخير من القرن المنصرم قد اضمحلت، وفقدت بريقها الحضاري، ولا سيما من بعد الغزو الغاشم.
غير أن كل ذلك قد تلاشى في زيارتي الحالية، وأدركت حجم الخطأ الذي كنت فيه، إذ وقفت في هذه المرة بفضل الباحث القدير الدكتور عايد الجريد على أجزاء من روح الكويت، فكان أن تجولت في ربوعها، ورأيت حجم التنظيم الطرقي الواسع بها، والذي يعكس تطورا إنشائيا مهما، كما وقفت على عديد من المراكز الثقافية المتعددة والتي تعكس وعيا معرفيا واسعا، واستمعت إلى تفاصيل حيثيات المشهد بها بشكل جيد.
وكان أن زرت سوق المباركية التاريخي، حيث كانت نشأة الكويت اقتصاديا، وحضورها اجتماعيا، ونموها سياسيا، وأكثر ما لفت نظري خلال تجوالنا في أروقة السوق وأزقته العتيقة، حالة النظافة الشديدة، فلم ألحظ أي منديل أو ورقة منثورة على قارعة الطريق، كما لم أجد أي ماء متدفق على أرضية السوق، بالرغم من جمعه لكل أنواع البضائع من خضار وفواكه إلى الملابس وتبعاتها وصولا إلى الذهب والمجوهرات، إضافة للعديد من المطاعم الكبيرة والتي تمتلئ بالكثير من العوائل الكويتية، وهو ما لفت نظري أيضا.
في سوق المباركية التاريخي والذي نعبر عنه بلهجتنا (سوق البلد) رأيت جمهرة واسعة من الكويتيين نساء ورجالا، أفرادا وعوائل، يتجولون في ثناياه متسوقين، ويستمتعون بمطاعمه ومقاهيه الشعبية، وهو أمر بتنا نفتقده في أسواقنا التاريخية، حيث يندر أن نرى الأفراد والعوائل ترتاد سوق البلد بشكل معتاد في مدننا الكبرى، لكونهم قد استعاضوا عنها بالمولات الحديثة، لكني لم ألحظ ذلك في سوق المباركية، الذي وجدته مزدحما بالشخوص الكويتية، حتى أني توقفت وصاحبي مرات عديدة للسلام على بعض معارفه ممن جمعهم السوق صدفة، والأجمل أني رأيت الكويتيين يجلس بعضهم بجوار بعض على مقاعد المقاهي الشعبية المنثورة من أجل شرب (استكانة) شاي لذيذ في طعمه ونكهته. حقا، يا له من منظر فريد من نوعه، جعلني أستشعر روحا متجلية تربط الكويتيين أفرادا ومجتمعا وكأنهم أسرة واحدة.
ولعلي لا أكون مبالغا في دلالة ما وصفت، ذلك أنهم قد شيدوا وجدانا خاصا بهم عبر استخدامهم للفظة (الديرة)، فهي عند غيرهم تعني مفهوما خاصا يختلف من شخص لآخر بحسب مرجعه القروي، فيقول أحدنا جئت من الديرة، أي جئت من قريتي الخاصة، لكنهم في الكويت قد عمموها لتعني البلد بمجموعه، بكل فئاته ونواحيه، فالكويت بجلها هي الديرة، وليس حيا أو محافظة فيها، وهذا ما لمسته وأنا أشاهد الأكتاف مرصوفة بعضها بجانب بعض في أحد مقاهي المباركية الشعبية، ودون أن يعرف أحدهم الآخر، ولعمري فتلك ميزة لا نراها اليوم إلا في الكويت كما أظن.
أخيرا، أشكر كل من قابلت وأثروني بحديثهم ومؤلفاتهم من قبيل الباحث نادر الوثير، والدكتورة نور الحبشي، والأستاذ الدكتور يعقوب الكندري، كما أشيد بجهود رئيسة معهد المرأة للتنمية والسلام المستشارة القانونية كوثر الجوعان، التي جمعت أطيافا من باحثي الخليج في مؤتمر هادف عنوانه «السلام أمان الشعوب»، وتلك هي رسالة قادة وشعوب دول مجلس التعاون الخليجي.