الإخوة الأعداء والرقص مع الأفاعي
الخميس / 6 / جمادى الآخرة / 1447 هـ - 06:23 - الخميس 27 نوفمبر 2025 06:23
أرض الذهب معزولة عن العالم. حفلة الموت لم تنته بعد. الناس بين قتلى وهاربين. صوت الرصاص هو المسموع على نطاق واسع. صور الموت باتت السائدة. ولغة الجنرالات هي المتصدرة. لا تفاهم، إلا بالدم، والجنائز، والسلام على المقابر.السودان مصاب بلعنة منذ عقود. في الثلاثين من يونيو عام 1989، قاد عمر البشير انقلابا على حكومة الصادق المهدي، المنتخبة ديموقراطيا. كانت تلك العملية بتنسيق مع الزعيم الروحي للحركة الإسلامية في السودان حسن الترابي. اختلف بعد ذلك الرفيقان، وشكل الترابي المؤتمر الشعبي، كجبهة معارضة للبشير.مع الوقت تخلص السودانيون من حكم البشير، الذي جثم على صدورهم أكثر من ثلاثين عاما، بعد أن قسم السودان إلى دولتين. إذ إن جنوب السودان، أخذ حقه في الاستقلال بناء على استفتاء شعبي عام 2011. وذلك لن يتم لولا تقاعس الدولة التي يقودها شخص يشهد له بعدم الوفاء بالعهود لا للداخل ولا للخارج؛ ناهيك عن هواه الإخواني، الذي نزع عنه رداء الدولة، وقاده للانزواء تحت ظل مفهوم الجماعة.انصرف الرجل بقوة الإرادة الشعبية السودانية. لكن السودان بقي على ما هو عليه. لم يتغير شيء أكثر من السوء الذي تشهده دولة تملك مقدرات هي الأوفر على مستوى العالم. فكما هو معروف أنها توصف بسلة غذاء العالم، كونها تعوم على بحر من المياه. ناهيك عن المعادن والذهب في باطن الأرض.في أبريل 2023، أوقظت الجروح، نشب خلاف بين رفقاء السلاح، خرج أحدهم عن الصف الجماعي للدولة والجيش، وهذا الخروج ما إذا أردنا تسمية الأمور بمسمياتها له تفسيران: انشقاق أو انقلاب، وكلاهما قبيح.ذلك المشهد أفرز شخصيتين. الأولى: الفريق عبدالفتاح البرهان قائد الجيش، ورئيس مجلس السيادة الانتقالي، وهو وجه الدولة المعترف به دوليا، ويستقبل كممثل رسمي للسودان. الثاني: الفريق محمد حمدان دقلو - الشهير بحميدتي - قائد قوات الدعم السريع.الغالبية العظمى دوليا ومحليا، ترى أن الأول هو الطرف الذي يجب التعامل معه كمسؤول عن أوضاع البلاد في السودان. بمعنى أن الرجل حصل على شرعية دولية ومحلية، تمنحه الحق بتسيير الدولة، وضبطها، وإعادة مؤسساتها لوضعها الطبيعي.ماذا عن الطرف الثاني؟ يراه البعض غير يسير بأنه زعيم حرب أهلية. بل إن الولايات المتحدة الأمريكية لم تتوان مطلع العام الجاري، عن توجيه الاتهام له بالضلوع بما اعتبرته 'إبادة جماعية'، بالإضافة إلى أدواره في ممارسة 'فضائع منهجية'، ضد الشعب السوداني.هذا الواقع. إنه قدر السودان. لذلك انبرت المملكة العربية السعودية قبل أيام؛ خلال زيارة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، إلى شرح الواقع في تلك الدولة كما هو، للرئيس الأمريكي دونالد ترامب. اقتنع الرئيس بالرواية السعودية، وأبدى عزمه على التدخل في إنهاء الأزمة.والرياض حملت الهم السوداني ليس طمعا بمكتسبات، إنما من منطلق عدة أمور. ما هي؟ أولا: المسؤولية الأخلاقية الملقاة على دولة كبرى ذات تأثير في المنطقة كالمملكة، تجاه شعوب المنطقة ودولها.ثانيا: استشعار الخطر، الناجم عن تفاقم الأزمة السودانية. فهي مع مرور الزمن ستكون عاملا مهددا لأمن البحر الأحمر، والملاحة الدولية، وخطوط التجارة العالمية، التي تعتمد عليها عمليات نقل الطاقة للعالم بأسره. ثالثا: أن تكون ما إذا انفلتت الأمور بحد كبير، بيئة مغرية للمتطرفين في القارة السمراء، ولا سيما أن السودان يرتبط بحدود مع سبع دول أفريقية.رابعا وهذا الأهم: لا تريد المملكة أن تتحول السودان إلى دولة منهارة، فذلك له عواقبه الوخيمة على السعودية والمنطقة برمتها. فالدولة المنهارة ستكون مساحة لتهريب السلاح، والبشر، والجريمة المنظمة، بالإضافة إلى تدفق مزيد من اللاجئين والفارين من أتون الصراع في بلادهم.واستجابة للرغبة السعودية تلك، شكل ترامب فريق عمل، وضع خطة على عجل. تحفظ عليها البرهان وقال كلمته بوضوح. وقبلها الطرف الآخر 'حميدتي'، وقرر هدنة إنسانية لمدة ثلاثة أشهر، في خطوة وصفتها الحكومة السودانية بمخادعة المجتمع الدولي، على شكل مناورة سياسية مكشوفة، استنادا على استمرار القصف الذي تمارسه قوات الدعم السريع.والرواية الرسمية في حقيقة الأمر مقلقة، إن ربطناها بتقرير صدر الثلاثاء عن منظمة العفو الدولية، التي قالت 'إن ناجين فروا من مدينة الفاشر، في ولاية شمال دارفور بالسودان، أكدوا أن مقاتلي قوات الدعم السريع، أعدموا عشرات الرجال العزل، واغتصبوا عشرات النساء والفتيات خلال استيلائهم على المدينة'.برأيي يجب على العقلاء في السودان، النظر بحكمة لأصل النزاع، الذي إن استمر، سيعزل هذه الدولة عن العالم، لتصل إلى مرحلة عدم الثقة عالميا، وذلك يحرمها بنهاية المطاف، من المساندة السياسية، والمعونات الدولية، ومشاريع إعادة الإعمار فيما بعد.إن تحويل السودان لأرض تصفية للنزاعات الإقليمية، سيقوده إلى قوائم الدول المنبوذة، والخاسر الأول والأخير؛ الإنسان السوداني.الخلاصة؛ إن عزلة السودان عن العالم غير مفيدة. وتسيد لغة الدم بين إخوة التراب ليس مجديا.الخرائط، والوطن، والبشر، والحجر، والمدن والقرى؛ بحاجة إلى تقديس، حتى إن واصل الإخوة الأعداء.. الرقص مع الأفاعي.