الرأي

ماذا لو اتحد المسلمون والمسيحيون؟

علي عبدالله باوزير
الإسلام والمسيحية أكبر ديانتين على وجه الأرض: حيث يمثل المسلمون 26% من سكان العالم، ويمثل المسيحيون 28% من سكانه، فهما يمثلان معا أكثر من نصف سكان العالم.وأمة الإسلام لها نصيبها العظيم من الموارد الاستراتيجية والإمكانات الكامنة: حيث يحتوي العالم الإسلامي على 60% من النفط العالمي وما يقارب 45% من الغاز الطبيعي، وأرض العالم الإسلامي غنية بالذهب والفوسفات والحديد واليورانيوم والمعادن النادرة، كما أن بعض الدول الإسلامية غنية بمواردها الزراعية.ومن ناحية الموقع، يمتد العالم الإسلامي على مدى ثلاث قارات، ويتحكم في ممرات بحرية غاية الأهمية: مضيق هرمز وقناة السويس وباب المندب... أما من ناحية القدرات البشرية والعلمية الكامنة، فإن ما يقارب 60% من العالم الإسلامي هم من الشباب دون سن الثلاثين القابل للتدريب والإنتاج، والعالم الإسلامي به جامعات ومراكز أبحاث متميزة مثل جامعة الملك عبدالله والجامعة الماليزية والجامعة التركية التقنية، وهناك الكثير من الكفاءات المسلمة التي تعمل في مجال الأبحاث المتقدمة في الغرب، كما أن هناك رجال أعمال مسلمين يمتلكون مؤسسات تعليمية واقتصادية هامة يمكنها أن تساهم في تطوير العالم الإسلامي.لكن قوة العالم الإسلامي الحقيقية تكمن في ثقافته التي تربط شعوبا وأمما متباينة، وأنها ثقافة إذا فهمناها بصدق نجد أنها واقعية وعصرية يمكنها أن تحرك المسلمين نحو قمة الإنجاز البشري. كما أنها ثقافة جامعة: يمتد أثرها الفكري والعملي والنفسي إلى أعلى المراتب الإنسانية، كما يمتد إلى أبسط الجماعات البشرية.فهي أمة تملك قدرات يندر أن تمتلكها أمة أخرى، لكنها تبقى قدرات «كامنة» potential، لا يستفيد المسلمون منها: إما لغياب الرؤية، أو سوء الإدارة، أو الجمود الفكري، أو الصراعات مع غير المسلمين... والصراعات ما بين المسلمين أنفسهم.وأمة المسيحيين هي الأخرى عندها نصيب وافر من الموارد الطبيعية والبشرية والثقافية والإمكانات الاستراتيجية، فهي الأمة التي تمتلك أكبر ثروة اقتصادية وقوة عسكرية وأوسع نفوذ سياسي وإعلامي، وهي الأمة الأكثر تقدما ما بين جميع الأمم: علميا وصناعيا وتعليميا.وقد بدأت العلاقة ما بين الأمتين: أمة المسلمين وأمة المسيحيين علاقة مودة، كما قال تعالى (وَلَتَجِدَنَ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَة لِلَذِينَ آمَنُواْ الَذِينَ قَالُوَاْ إِنَا نَصَارَى (82) المائدة. وأمر رسول الله ﷺ أتباعه بالهجرة إلى الحبشة لأن ملكها (النجاشي) لا يظلم عنده أحد، وهو تأكيد على أن هناك قيما أخلاقية مشتركة ما بين الإسلام والمسيحية. وعندما هاجر المسلمون إلى الحبشة رأى نصارى الحبشة في المسلمين أمة مؤمنة بالله فاحتضنوهم وقاموا بحمايتهم ورفضوا تسليمهم إلى قريش.وبالمثل، رأى المسلمون في النصارى مؤمنين بالله، كما قال تعالى (وَإِنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَهِ ثَمَنا قَلِيلا أولَٰئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِهِمْ ِنَ اللَهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) آل عمران.وأشار تعالى إلى أصحاب الأخدود - وهم نصارى - على أنهم من المؤمنين، فقال تعالى: (وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7)البروج.ومن المهم الإشارة إلى أن الآيات التي أشارت إلى نصارى مؤمنين بالله هي آيات نزلت قبل ظهور الكنائس الموحدة unitarian churches بقرون طويلة، حيث نزل القرآن في القرن السابع الميلادي، بينما ظهرت الكنائس الموحدة التي ترفض عقيدة الثالوث في القرن السادس عشر.نصارى الحبشة من الأرثودوكس الشرقيين: قد دخلت المسيحية إلى الحبشة عن طريق الكنيسة القبطية المصرية، حتى أن بابا الكنيسة القبطية في مصر ظل هو الذي يقوم بتنصيب رئيس الكنيسة الإثيوبية حتى عام 1959م. وقد أوصى رسول الله ﷺ بالأقباط بصفة خاصة، فقال ﷺ «استوصوا بأقباط مصر خيرا»، تأكيدا على الحرص على التآلف والتعايش والتعامل معهم بالرفق والتسامح والعفو، وأن لهم حق الاحترام والعيش في أمان وتوافق مع المسلمين.وكما احتضن النصارى المسلمين في الحبشة فقد احتضن المسلمون النصارى في العهد الذي أعطاه رسول الله ﷺ لوفد نصارى نجران، وجاء فيه «ولجميع من ينتحل دعوة النصرانية في شرق الأرض وغربها، قريبها وبعيدها، فصيحها وأعجمها، جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله، على أموالهم، وأنفسهم، وملتهم، وغائبهم، وشاهدهم، وعشيرتهم، ومن تبعهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير أن أحمى جانبهم وأذب عنهم وعن كنائسهم وبيعهم وبيوت صلواتهم ومواضع الرهبان ومواضع السياح.. وأن أحرس دينهم وملتهم أينما كانوا.. بما أحفظ به نفسي وخاصتي وأهل الإسلام من ملتي.. لأني أعطيتهم عهد الله أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وعلى المسلمين ما عليهم.. حتى يكونوا للمسلمين شركاء فيما لهم وفيما عليهم».وعندما فتح المسلمون مصر وجدوا الأقباط مضطهدين بشدة من قبل حكام مصر البيزنطيين المسيحيين الذين كانوا على مذهب غير مذهب الأقباط، وقد صادر البيزنطيون كنائس الأقباط وقاموا بنفي بطاركتهم وفرضوا عليهم الضرائب الباهظة وحاربوا اللغة القبطية... فأتى المسلمون وسمحوا للأقباط بترميم كنائسهم وبناء الكنائس الجديدة، وتعاملوا مع عامة الأقباط ورجال دينهم باحترام، وعينوا الأقباط في الدواوين الحكومية، حيث كانوا يكتبون فيها بلغتهم... فوجد أقباط مصر في المسلمين حلفاء ومخلصين لهم من الظلم الذي عانوا منه.وعندما فتح المسلمون بيت المقدس في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أعطى نصارى القدس الأمان على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم، ومنع هدم الكنائس أو الانتقاص منها وأعطوا الحرية الدينية الكاملة ومنع إكراه أحد منهم على تغيير دينه، إلخ.فوضع الإسلام أساس حياة مشتركة ما بين المسلمين والنصارى: حياة تقوم على التعامل الراقي والأخلاق الفاضلة، والمبادئ الإنسانية والعدالة والمساواة واحترام حرية العقيدة.ثم تطورت الأحداث التاريخية وتحولت العلاقة من الود والتفاهم والمبادئ إلى علاقة مبنية على صراع وطموحات امبراطورية وحروب دامية بلغت ذروتها حين سعى البابا أوربان الثاني Pope Urban II إلى فرض سيطرته على أمراء أوروبا وتوحيدها عن طريق الحروب الصليبية التي ارتكبت أبشع الجرائم في حق المسلمين... وانتقلت العلاقة من توافق إلى «حرب مقدسة» في نظر كل من الطرفين!ثم دخلنا في عهود الاستعمار القديم - ومن بعدها الاستعمار الحديث Neocolonialism - وبقيت العلاقة ما بين العالمين - المسلم والمسيحي - تتراوح ما بين مختلف صور الصراع.حتى وصلنا إلى عصرنا الحالي الذي يعيش فيه كل من العالم المسيحي والعالم المسلم أزمته الخاصة، بينما هناك تكامل واضح ما بين الشرق المسلم والغرب المسيحي، خاصة ما بين المنطقة الأوروبية والمنطقة العربية: فأوروبا تمر بأزمة اقتصادية وهي في أشد الحاجة إلى الطاقة بسعر معقول، والعالم العربي عنده فائض في الطاقة، وأوروبا تعاني من انخفاض معدل المواليد وارتفاع معدلات الشيخوخة، وهي بحاجة إلى كفاءات وأيد عاملة شابة، والمنطقة العربية عندها فائض من الشباب القابل للتدريب والتأهيل والباحث عن فرص للعمل، والعالم العربي بحاجة إلى التنمية التي تتطلب مجموعة كبيرة من المشاريع التنموية، وأوروبا عندها الخبرة اللازمة وهي في حاجة لهذه المشاريع لإنعاش اقتصادها، والعالم العربي يعاني من قصور واضح في الفكر العلمي والإداري والتنظيمي اللازم للتنمية، وأوروبا تتميز بتقدمها في هذه المجالات، وأوروبا تعاني من فراغ واضح في الفكر الأخلاقي والروحي، وفي المقابل يتميز العالم العربي في الثقافة الأخلاقية والروحية، وكل من العالمين العربي والأوروبي يواجه تحديات التكامل الإقليمي ويعاني من تهديدات أمنية وتدخلات خارجية قوية، وكل منهما بحاجة ماسة إلى منظومة أمنية تحمي منطقته من مخاطر إقليمية ودولية، إلخ.فكل من المنطقتين: الأوروبية والعربية تواجهان تحديات متشابهة، وكل منهما تعيش أزمة، وكل منهما في حاجة إلى الأخرى حتى تخرج من أزمتها.. ولا ننسى أن كلا المنطقتين: العربية والأوروبية لها حضارتها المتميزة، وأن بينهما تاريخا طويلا من التفاعل، وأن كليهما قد فقد دوره التاريخي، ويشعر أن ثقافته مهددة، ويبحث لنفسه عن دور مستقل ومؤثر في عالم اليوم... وهناك أرض مشتركة واسعة ما بينهما، حيث كلا الثقافتين تتفقان في أمور عدة، كما سبق وأشرت في مقال سابق بعنوان «الحضارة الحديثة: هل جذورها «يهودية - مسيحية» حقا؟»فماذا.. لو، أمكن تأسيس علاقة من نوع جديد ما بينهما؟ علاقة لا تقوم على الهيمنة والصراع، وإنما تقوم على التكامل والتعاون في سبيل المصلحة المتبادلة.ماذا... لو، عادت العلاقة ما بين المسلمين والنصارى كما كانت في البداية؟ربما يكون ذلك حلما بعيد المنال: فمن الصعوبة تغيير العقول وإصلاح النفوس، لكن، ماذا.. لو، كان تحقيق الحلم ممكنا؟مجرد تساؤل!