الرأي

اللغة التي لا تسقط: حين تعلمنا العربية معنى البقاء

عواض القارحي
حين سقطت ألمانيا في أيدي الحلفاء عام 1945، كانت الهزيمة أشبه بزلزال ثقافي هز وجدان الأمة الألمانية. انطفأت المصانع، وانهارت المدن، وساد الخراب في أرجاء الأرض التي كانت يوما تغذي أوروبا بالعلم والفكر. ومع ذلك، لم تمت ألمانيا؛ لأن لغتها لم تمت. فقد بقيت الكلمات الألمانية تدب في شوارع برلين المحطمة كنبض في جسد مثخن بالجراح، تذكر الناس بأن اللسان هو آخر ما يهزم في الأمم، وأول ما يعيد بناءها.ومن تلك التجربة العميقة نتعلم نحن - أبناء العربية - أن اللغة ليست وسيلة للتعبير فحسب، بل وسيلة للنجاة والبقاء. فاللغة التي استطاعت أن تحمي ألمانيا من الذوبان وسط ركام الهزيمة، هي النموذج الذي يذكرنا بما للعربية من قدرة أعظم وأبقى.لقد مرت على اللغة العربية قرون من الغزو والاحتلال والانقسام، وذبحت المدن، وتحولت الممالك إلى رماد، لكن العربية ظلت تنبض في الوعي، وتغنى في الشعر، وتحفظ في الصدور والقلوب. لم تسقط بسقوط الدول، ولم تخب بانحسار السلطان؛ لأنها لغة رسالة لا تسكن التاريخ، بل تصنعه.إن ما فعلته اللغة الألمانية بعد سقوط برلين فعلته العربية من قبل، بل أعمق وأبقى. فقد عاشت العربية مراحل الاستضعاف، لكنها كانت تزرع المجد في رحم المحن. فكلما حوصرت، اتسعت؛ وكلما جردت من القوة المادية، استعادت سلطانها المعنوي في الفكر والعلم والبيان.ولذلك فإن بقاءها ليس صدفة، بل وعد من السماء: «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون»، والذكر هنا لغة ومعنى مرتبط بكتاب ربنا.لقد قامت الأمم الحديثة - كألمانيا واليابان - بإحياء ذاتها عبر لغتها، فأعادت من خلال الكلمة بناء الوعي قبل الحجر. لكن الأمة العربية تمتلك من اللغة ما يتجاوز الإحياء إلى الإلهام؛ لغة قادرة على أن تعلم العالم التوازن بين الروح والعقل، بين الإبداع والإيمان، بين الحرف والجوهر.العربية لا تحتاج أن تنهض بعد سقوط، لأنها لم تسقط قط. هي التي ظلت تقف حين عجزت الحضارات عن الوقوف، وتبقى حين يفنى الزمان من حولها. فهي اللغة الوحيدة التي ولدت في مهد الوحي، ولا تزال حية في الوجدان الجمعي، تكتب القصيدة، وتنطق الفيلسوف، وتوحد المؤمنين على اختلاف أوطانهم ولهجاتهم.ولو كان بقاء الأمم قائما على قوة السلاح وحده، لانطفأت العربية منذ قرون؛ لكنها تقاس بما تبقى من لسانها حين تخرس السيوف. ومن هنا ندرك أن بقاء العربية ليس حنينا إلى الماضي، بل مهمة حضارية في الحاضر، تتطلب أن نعيد إليها مكانها في ميدان العلم والتقنية والذكاء الاصطناعي، لا بوصفها لغة الماضي، بل لغة المستقبل.فاللغة العربية ليست لسانا فحسب، بل سلالة من النور تمتد من أول كلمة خلقت بها البشرية: 'اقرأ'.هي ميراث الأنبياء، وصوت الصحراء حين تنطق بالخلود، ووشم على جبين التاريخ لا تمحوه العصور.قد تسقط العواصم وتهدم الأسوار، لكن جدار المعنى يبقى ما بقيت العربية؛ فهي لسان الوحي الذي لا يصدأ، وروح الأمة التي لا تموت. ومن يتخلى عن لغته، كمن يقطع شريان ذاكرته، وأما من يحيا بها، فيحيا بألف عمر.فلتبق العربية كما كانت دوما: أم اللغات، وعرش الكلمة، وصوت الإنسان حين يبحث عن ذاته في المعنى.