لغتنا والبطولات الوهمية!
الثلاثاء / 4 / جمادى الآخرة / 1447 هـ - 04:03 - الثلاثاء 25 نوفمبر 2025 04:03
لغتنا اليومية تعكس حالتنا النفسية بامتياز، بل وتفضحنا أحيانا، وقبل أن نفتتح جلسة الاعتراف. يكفي أن تترك الإنسان يتحدث خمس دقائق لتعرف تصوراته وأفكاره بل ومعتقداته، وربما مقياس ثقته بنفسه أيضا. فبعض الكلمات التي نرميها عرض الطريق بلا مبالاة، هي في الحقيقة رسائل مشفرة تكشف صورتنا الداخلية، ولو كنا آخر من يعلم!فها هو الاقتصادي المتشائم يوزع الحذر يمينا ويسارا كلما ذكر الاقتصاد، كأنه متنبئ هالك بطمس اقتصادي قادم. بينما الاقتصادي المتفائل يتحدث وكأننا على مشارف عصر ذهبي، والذهب نفسه يبحث عن فرصة ليستثمر عنده. والطبيب المتفائل يبعث الطمأنينة في نفس المريض وكأنه يبيع اشتراكا شهريا في الأمل، أما الطبيب الخائف فينظر إليك نظرة من اكتشف أنك 'مريض' وليس 'ثمة احتمال بالنجاة'، ويمضي في شرح احتمالات النجاة وكأنك تجربة مخبرية الفشل الاحتمال الأكبر!وفي حياتنا الاجتماعية ننسخ هذه الآلية بكل براعة. فالرجل الذي يبدأ حديثه بجملة 'الصحيح هو...' يعتقد بعمق أنه هو المخول رسميا - وبقرار جمهوري غير ديموقراطي - بوعي الحقيقة. ثم يأتي الآخر الذي يعلن بكل ثقة 'حل المشكلة هو...' وكأن المشاكل المعقدة مجرد هاتف ذكي يحتاج إلى إعادة تشغيل فقط. هكذا، بكل بساطة، يحتكرون الحقيقة كما تحتكر المقاعد الأمامية في المناسبات.ومن الطبيعي بعد كل هذا الاحتكار الفكري أن ترى تحولات هؤلاء الأشخاص سريعة وغير متزنة؛ فهم يغيرون قناعاتهم كما يغير البعض خلفية الهاتف. على الجانب الآخر يقف الشخص المنفتح، الذي يقول 'ربما... وقد يكون... ومن المحتمل...' فتشعر أنه يعيش في توازن حقيقي، وتحولاته هادئة ومدروسة وقناعة كبيرة، لا تشبه الانقلابات الداخلية التي تحدث عند أصحاب 'الرأي الواحد'.ثم نصل إلى بطل آخر من أبطال هذا المجتمع الدرامي: الشخص العصبي. لا يحتاج هذا الشخص للغضب؛ إلا أن يتنفس بغصة وحرارة غير مفتعلة. ليخبرك بكل فخر أنه عصبي، سريع الانفجار، يشتعل لأتفه الأسباب، ويظن أن هذه 'بطولة'. أما من يتباهى بأنه 'صريح'، فغالبا ما يقصد 'أنا وقح، لكن بنسخة مخففة'. ومع ذلك يتوقع منك أن تشكره لأنه فضلك على الآخرين بإهانة مهذبة.وبدلا من أن يقول أحدهم 'علمت نفسي الحلم والصبر'، أو 'أعامل الناس بلطف وأخبرهم الحقيقة بكرامة' يفضل تقديم نفسه كنسخة ميدانية من بركان نشط لأتفه الأسباب.ثم هناك الأسطورة البشرية التي تردد 'هذا طبعي'. وهو ما يعني ترجمة بلغة الداخل العقلي 'أنا سيئ... ولن أتغير... ومن لم يعجبه فليشرب من ماء البحر!' هذا الإنسان لا يريد تطوير مهارات، ولا تحسين سلوك، ويعتبر أي محاولة لتعديل طبعه هجوما على الهوية القومية لشخصه.وحتى لا يكتمل المشهد دون العبقرية الاجتماعية الأخيرة، يظهر لنا ذاك الذي يقول إن الآخرين 'لا يفهمون'. والحقيقة الساخرة أن من يعلن جهارة أن العالم لا يفهمه هو غالبا آخر من لا يفهم نفسه.وفي النهاية، نعم... قد تخون اللغة أصحابها. كثير من الناس يريد أن يقول شيئا، فتخرج الكلمات بشيء آخر تماما. لكن في اللقاء الأول لن يعرف أحد تاريخك ولا أعماقك، وسيبقى الحكم الأول على لغتك. لذلك - ولكيلا تبدو بطلا من أبطال 'الدراما اللغوية' - امنح لغتك بعض العناية؛ فهي بطاقة تعريفك الأولى... وربما الأخيرة أيضا.Halemalbaarrak@