جيوبوليتيك الذكاء الاصطناعي: نحو إطار مفاهيمي لفهم القوة في القرن الحادي والعشرين
الاثنين / 3 / جمادى الآخرة / 1447 هـ - 03:08 - الاثنين 24 نوفمبر 2025 03:08
في اللحظة التي يعيد فيها الذكاء الاصطناعي تعريف حدود الممكن في الاقتصاد والأمن والمجتمع تبرز الحاجة الملحة إلى إطار مفاهيمي جديد يتجاوز الأدوات التحليلية التقليدية للجيوبوليتيك الكلاسيكي. فالعالم لم يعد يشهد صراعا على الأراضي والموارد الطبيعية وحدها، لكنه يدخل مرحلة تاريخية جديدة يصبح فيها امتلاك القدرة الحوسبية والسيطرة على البيانات والتحكم في الخوارزميات، عوامل حاسمة في تحديد موازين القوى الدولية. من هنا نؤسس مصطلح «جيوبوليتيك الذكاء الاصطناعي» بوصفه ضرورة علمية لفهم التحولات العميقة التي تطرأ على طبيعة القوة ذاتها وعلى آليات اكتسابها وممارستها في النظام الدولي المعاصر.يمكن تعريف «جيوبوليتيك الذكاء الاصطناعي» (وهو مصطلح أطرحه للمرة الأولى في الأدبيات العربية) بأنه حقل تحليلي متعدد الأبعاد يدرس التفاعلات المعقدة بين تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي وإعادة توزيع القوة في النظام الدولي، بما يشمل التنافس الاستراتيجي على الموارد التقنية الحرجة والسيطرة على البنية التحتية الرقمية العالمية وصياغة معايير الحوكمة التكنولوجية، وتأثير ذلك كله على إعادة تشكيل العلاقات بين الدول والفاعلين غير الدوليين. هذا التعريف يتجاوز النظرة التقنية الضيقة التي ترى في الذكاء الاصطناعي مجرد أداة اقتصادية أو ابتكار علمي ليضعه في سياقه الاستراتيجي الأوسع بوصفه عاملا محوريا في إعادة صياغة الجيوبوليتيك العالمي.إن فهم هذا المفهوم يتطلب أولا إدراك أن الموارد التقنية الاستراتيجية أصبحت تمثل ما كان يمثله النفط في القرن العشرين، بل ربما أكثر، فالرقائق الالكترونية المتقدمة خاصة، وحدات المعالجة الرسومية المخصصة للتعلم العميق، باتت سلعة استراتيجية تفرض الدول الكبرى عليها ضوابط تصدير صارمة، تماما كما كانت الأسلحة النووية في الحرب الباردة، السيطرة على سلاسل إمداد هذه الرقائق تعني القدرة على تحديد من يمكنه بناء قدرات حوسبية متقدمة ومن لا يمكنه ذلك، وهو ما يحول هذه التقنية إلى أداة ضغط جيوسياسي بالغة الفعالية. وبالمثل فإن المعادن النادرة الضرورية لتصنيع هذه الرقائق من الليثيوم إلى الكوبالت والعناصر الأرضية النادرة، أصبحت محل تنافس محموم بين القوى الكبرى، لا سيما في ظل تركز مصادرها في مناطق جغرافية محددة، مما يجعل التحكم فيها عاملا حاسما في المعادلة الجيوسياسية الجديدة.لكن المسألة تتجاوز الموارد المادية لتشمل البيانات الضخمة بوصفها المادة الخام للذكاء الاصطناعي. فكلما زادت كمية البيانات المتاحة لدولة أو شركة زادت قدرتها على تدريب نماذج ذكاء اصطناعي أكثر دقة وفعالية. هنا تبرز مسألة السيادة على البيانات كقضية جيوسياسية مركزية، حيث تسعى الدول إلى فرض قوانين لتوطين البيانات ومنع تدفقها إلى الخارج، بينما تسعى شركات التكنولوجيا العملاقة إلى الوصول الحر إلى أكبر قدر ممكن من البيانات عبر الحدود. هذا الصراع بين السيادة الوطنية والعولمة الرقمية يشكل أحد أبرز تجليات «جيوبوليتيك الذكاء الاصطناعي». وإلى جانب البيانات تمثل القدرة الحوسبية نفسها، أي امتلاك مراكز البيانات العملاقة والحواسيب القادرة على معالجة كميات هائلة من المعلومات مصدرا جديدا للقوة الوطنية يضاف إلى القوة العسكرية والاقتصادية التقليدية.على أن التنافس على الموارد لا يكتمل دون السيطرة على البنية التحتية الرقمية التي تشكل العمود الفقري لاقتصاد الذكاء الاصطناعي. مراكز البيانات الإقليمية والعالمية لم تعد مجرد منشآت تقنية إنما أصبحت مواقع استراتيجية تحدد من يملك القدرة على تخزين البيانات ومعالجتها وتحليلها. وبالتالي توزيعها الجغرافي يؤثر مباشرة على السيادة الرقمية للدول، إذ إن الدول التي تفتقر إلى مراكز بيانات محلية تصبح معتمدة على بنى تحتية أجنبية مما يعرض بياناتها وأمنها القومي للخطر. وبالمثل فإن كابلات الألياف البصرية البحرية التي تحمل أكثر من 95% من البيانات العابرة للقارات أصبحت هدفا استراتيجيا، حيث تسعى الدول الكبرى إلى التحكم في هذه الممرات الرقمية أو على الأقل ضمان عدم سيطرة الخصوم عليها. وفي هذا السياق يبرز الفائض الطاقي كعامل حاسم، إذ إن تشغيل مراكز البيانات الضخمة ونماذج الذكاء الاصطناعي المتقدمة يتطلب استهلاكا هائلا ومستمرا للطاقة، مما يجعل الدول القادرة على توفير طاقة رخيصة ووفيرة في موقع تنافسي متميز. كما تمثل الشبكات السحابية والمنصات الرقمية العالمية أدوات سيطرة اقتصادية وسياسية، حيث إن الدول والشركات المسيطرة على هذه المنصات تستطيع فرض معاييرها وشروطها على الآخرين.من هذه البنية التحتية تنبثق مسألة السيادة التكنولوجية التي تمثل القدرة على تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي محليا دون الاعتماد الكلي على شركات أو دول أجنبية. فالدول التي تفتقر إلى القدرة على تصميم خوارزمياتها الخاصة تجد نفسها في موقف تبعية استراتيجية، حيث تصبح رهينة للقرارات التقنية والسياسية للمطورين الأجانب. هذا يفسر السباق المحموم بين الدول الطموحة لبناء قدرات بحثية محلية في الذكاء الاصطناعي حتى لو كانت محدودة في البداية. وترتبط بذلك مسألة أمن سلاسل الإمداد الرقمية، حيث تسعى الدول إلى تقليل نقاط ضعفها من خلال تنويع مصادر التكنولوجيا أو بناء قدرات محلية بديلة. التوطين التكنولوجي، أي نقل المعرفة وبناء القدرات المحلية في البحث والتطوير، يصبح هدفا استراتيجيا لا يقل أهمية عن استيراد التكنولوجيا نفسها. ومن هنا فإن القدرة على المشاركة في وضع معايير الحوكمة الرقمية على المستوى الدولي تمنح الدول نفوذا هائلا في تشكيل مستقبل الصناعة، إذ إن من يضع المعايير يستطيع أن يمنح شركاته الوطنية امتيازا ويفرض شروطا على المنافسين.كل هذه العوامل تتضافر لإعادة تشكيل موازين القوى الدولية بطرق جذرية. فالقوة الحسابية أصبحت مصدرا جديدا للنفوذ يضاهي بل قد يتجاوز في بعض السياقات القوة العسكرية التقليدية. الدولة التي تملك أضخم قدرات حوسبية وأكثر البيانات وأفضل الخوارزميات تستطيع أن تحقق تفوقا اقتصاديا وأمنيا ومعلوماتيا على منافسيها. هذا يفسر لماذا نشهد ظهور تحالفات تكنولوجية جديدة تقوم على التكامل الرقمي ومشاركة البيانات والمعايير التقنية بدلا من المعاهدات العسكرية التقليدية. فالشراكات في مجال الذكاء الاصطناعي بين الدول أصبحت تعكس توازنات استراتيجية عميقة، حيث تختار الدول شركاءها بناء على مدى توافق مصالحها التكنولوجية والأمنية. وعلى الجانب الآخر نرى استخدام ضوابط التصدير والعقوبات التقنية وحظر الرقائق كأدوات ضغط سياسي، في ما يمكن تسميته «الحرب الاقتصادية الرقمية»، حيث تستخدم الدول الكبرى تفوقها التكنولوجي لإضعاف خصومها أو إجبارهم على تقديم تنازلات سياسية. وفي هذا السياق: تبرز إمكانية صعود قوى جديدة، حيث يمكن لدول متوسطة أن تحقق قفزات نوعية وتصبح لاعبا محوريا في النظام الدولي عبر الاستثمار الاستراتيجي في الذكاء الاصطناعي دون الحاجة إلى بناء قوة عسكرية ضخمة أو امتلاك موارد طبيعية هائلة.غير أن هذه التحولات لا تقتصر على المنافسة الاقتصادية والدبلوماسية بل تمتد إلى المجال العسكري والأمني بشكل عميق. فالأنظمة الذاتية والأسلحة الذكية تعيد تعريف طبيعة الحروب المستقبلية، حيث تصبح السرعة في اتخاذ القرار والقدرة على معالجة المعلومات أهم من الكتلة العددية للقوات أو حتى التفوق التكنولوجي التقليدي. كما أن الاستخبارات المعززة بالذكاء الاصطناعي تمنح الدول القدرة على رصد وتحليل كميات هائلة من المعلومات في زمن قياسي، مما يغير طبيعة الصراع الاستخباراتي العالمي. الحرب السيبرانية تكتسب أبعادا جديدة مع استخدام الذكاء الاصطناعي في الهجمات والدفاعات، مما يجعل الفضاء السيبراني ساحة صراع رئيسية لا تقل أهمية عن المجالات التقليدية. وربما الأخطر من ذلك استخدام التزييف العميق والخوارزميات في نشر المعلومات المضللة والحرب المعرفية، حيث يصبح التلاعب بالرأي العام وتشكيل السرديات أداة جيوسياسية بالغة الفعالية.على الصعيد الاقتصادي يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل أسواق العمل والإنتاجية بطرق قد تؤدي إلى تفاوتات هائلة بين الدول. فالاقتصادات التي تنجح في دمج الذكاء الاصطناعي في قطاعاتها الإنتاجية ستحقق قفزات في الإنتاجية والتنافسية، بينما ستجد الاقتصادات المتأخرة تكنولوجيا نفسها في موقف متدهور. الاستثمارات الاستراتيجية في هذا المجال أصبحت تقاس بمئات المليارات من الدولارات وتدفقات رأس المال التقني باتت تحدد من سيقود الاقتصاد العالمي في العقود القادمة. لكن هذا التحول يحمل معه خطر تعميق عدم المساواة الرقمية بين الشمال والجنوب، حيث قد تجد الدول النامية نفسها في موقع تبعية دائمة إذا لم تتمكن من اللحاق بالركب التكنولوجي. ظهور ما يمكن تسميته «اقتصاد الخوارزميات» ونماذج الأعمال القائمة على البيانات، يعني أن القواعد الاقتصادية التقليدية لم تعد كافية لفهم ديناميكيات النمو والتنافسية.في موازاة ذلك يشتد الصراع على وضع الأطر التنظيمية والحوكمة الدولية للذكاء الاصطناعي. فالمعايير الأخلاقية للذكاء الاصطناعي من مسائل الشفافية والمساءلة إلى تجنب التحيز الخوارزمي وحماية الخصوصية أصبحت ساحة تنافس بين نماذج حوكمة مختلفة. الاتحاد الأوروبي يسعى لفرض نموذج تنظيمي صارم يضع حماية الحقوق والخصوصية في المقدمة، بينما تفضل الولايات المتحدة نموذجا أكثر مرونة يترك المجال للابتكار الخاص، في حين تتبنى الصين نموذجا مركزيا تقوده الدولة وتخضع فيه الشركات للرقابة الحكومية المشددة. هذه النماذج المتنافسة ليست مجرد خيارات تنظيمية بل تعكس اختلافات جوهرية في القيم والمصالح الاستراتيجية. الدولة أو الكتلة التي تنجح في فرض نموذجها كمعيار دولي ستكسب ميزة تنافسية هائلة. كما أن الصراع حول حقوق الملكية الفكرية وبراءات الاختراع ونقل التكنولوجيا يشكل جانبا مهما من «جيوبوليتيك الذكاء الاصطناعي»، حيث تسعى كل دولة لحماية تقنياتها المتقدمة مع السعي في الوقت نفسه للحصول على تقنيات الآخرين.إن فهم «جيوبوليتيك الذكاء الاصطناعي» يتطلب منهجية تحليلية متعددة الأبعاد تجمع بين عدة حقول معرفية. فالمنهج الجيوبوليتيكي الكلاسيكي الذي يركز على الجغرافيا والموارد والموقع يظل صالحا، لكن مع إعادة تطويره ليشمل مفهوم «الجغرافيا الرقمية»، حيث تصبح مراكز البيانات بمثابة «موانئ» استراتيجية وكابلات الألياف البصرية بمثابة «طرق تجارية» حيوية. الاقتصاد السياسي الدولي يوفر الأدوات اللازمة لتحليل تدفقات رأس المال والاستثمار والتجارة في القطاع التقني، وفهم كيف تتشابك المصالح الاقتصادية بالاستراتيجية، «نظرية العلاقات الدولية» بتياراتها المختلفة من الواقعية إلى الليبرالية المؤسسية إلى البنائية، تساعد في فهم التحالفات والصراعات والتوازنات القائمة على القوة التكنولوجية. الدراسات الأمنية توفر الإطار المناسب لتقييم التهديدات والفرص الأمنية الناشئة عن الذكاء الاصطناعي.من المهم أيضا التمييز بين «جيوبوليتيك الذكاء الاصطناعي» وعدد من المفاهيم الأخرى التي قد تبدو متشابهة، فهو يختلف عن مفهوم «الجيوتكنولوجيا الأوسع، إذ يركز تحديدا على الذكاء الاصطناعي وليس التكنولوجيا عموما رغم تداخلهما في بعض الجوانب، كما يتجاوز مفهوم «السياسة الرقمية» الذي يركز على البعد السياسي المحلي ليشمل التفاعلات الاستراتيجية الدولية والصراع على القوة. ورغم تقاطعه مع «الجيوبوليتيك السيبراني» إلا أنه يمتد إلى ما هو أبعد من الأمن السيبراني ليشمل القدرة الحوسبية والبنية التحتية والتطبيقات الاقتصادية والعسكرية. وأخيرا: فإنه يختلف عن «اقتصاديات الذكاء الاصطناعي» في تركيزه على الأبعاد الاستراتيجية والقوة أكثر من الجوانب الاقتصادية البحتة رغم اعتماده على التحليل الاقتصادي كأداة مهمة.إن الأهمية العلمية والعملية لهذا المفهوم تكمن في كونه يوفر إطارا تحليليا متماسكا لفهم التحولات الجذرية في طبيعة القوة الدولية وآليات اكتسابها، ويساعد صانعي القرار على رؤية الذكاء الاصطناعي كمسألة استراتيجية شاملة وليس مجرد قضية تقنية محدودة، ويربط بين مجالات منفصلة في الدراسات التقليدية ضمن إطار متماسك، ويمكن من التنبؤ بالتحولات المستقبلية في النظام الدولي بناء على التطورات التقنية الجارية، ويحدد نقاط الضعف والقوة للدول في سياق المنافسة التكنولوجية العالمية.في الختام: فإن «جيوبوليتيك الذكاء الاصطناعي» ليس مجرد مصطلح جديد يضاف إلى قاموس العلوم السياسية، بل هو ضرورة معرفية لفهم عالم يتحول بسرعة من منطق القوة (الجغرافية-العسكرية) التقليدي إلى منطق القوة (الحسابية-المعرفية). إنه يمثل محاولة لبناء لغة تحليلية قادرة على استيعاب التعقيدات المتزايدة للنظام الدولي في عصر تصبح فيه الخوارزميات والبيانات والقدرة الحوسبية عوامل محددة لمصير الأمم. ومع تسارع التطورات التقنية واشتداد المنافسة بين القوى الكبرى سيصبح هذا المفهوم أكثر أهمية في السنوات والعقود القادمة، ليس فقط للباحثين والأكاديميين بل لكل من يسعى لفهم كيف سيبدو العالم في المستقبل القريب ومن سيقوده، وعلى أي أساس ستقوم القوة والنفوذ في القرن الحادي والعشرين.TurkiGoblan@