الرأي

الاتفاقيات الكبرى... حين تتحول الزيارة السياسية إلى درس في الحوكمة الوطنية

حاتم بارجاش
شهد الأسبوع الماضي واحدة من أهم الزيارات السياسية والاقتصادية في تاريخ العلاقات السعودية - الأمريكية، حيث وقع سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان سلسلة اتفاقيات واسعة تمتد من الطاقة النووية المدنية إلى المعادن الاستراتيجية، ومن الذكاء الاصطناعي إلى الاستثمار والتعاون الدفاعي. هذه الاتفاقيات ليست مجرد صفقات اقتصادية على الورق؛ إنها - في جوهرها - اختبار حقيقي لحوكمة الدولة، وكيف تبني المملكة أدواتها المؤسسية لإدارة شراكات بهذا الحجم والتأثير.من التوقيع إلى التمكين: الاتفاقيات كمرآة لحوكمة الدولةحين توقع دولة اتفاقيات ضخمة في مجالات حساسة مثل الطاقة النووية أو المعادن الحرجة أو الذكاء الاصطناعي، فهي لا تختبر قدرتها على التمويل فحسب، بل قدرتها على صياغة سياسات تنظيمية واضحة وتوزيع الأدوار بين الجهات الحكومية وضمان الامتثال، والرقابة، والمساءلة وتحويل الشراكات إلى قيمة وطنية مستدامة. وهذا ما تمارسه السعودية اليوم فعليا، بفضل التحول الذي قاده ولي العهد عبر رؤية 2030 أن تكون الدولة مُمَأسسة قبل أن تكون متوسعة.الاتفاقيات الأخيرة... تحالفات تبنى على الثقة المؤسساتيةمن بين الاتفاقيات التي أعلن عنها خلال الزيارة: إطار للمعادن الاستراتيجية مع الولايات المتحدة وتعاون في الطاقة النووية المدنية ومذكرة تفاهم في الذكاء الاصطناعي وتوسع استثمارات سعودية في أمريكا تقترب من تريليون دولار. هذه المجالات ليست مجرد تقنيات، بل مناطق نفوذ اقتصادية وسيادية في العالم الجديد. ولا يمكن لدولة أن تدخلها بثقة إلا إذا كانت حوكمتها الداخلية قوية ومتماسكة.الذكاء الاصطناعي... حيث تلتقي اتفاقيات اليوم بحوكمة الغداتفاقية الذكاء الاصطناعي تحديدا تكشف منطقا جديدا في السياسة السعودية:أن التقنية ليست مشروعا تجاريا... بل مشروع حوكمة وتنظيم وسيادة. فالذكاء الاصطناعي يعتمد على جودة البيانات وحماية الخصوصية والرقابة على النماذج والخوارزميات وضمان النزاهة والشفافية ووجود «حاكمية رقمية» لا تسمح بانحراف السلطة التقنية.وهذا هو جوهر السؤال الذي طرحته الأستاذة ليال قدسي في أحد مقالاتها حول العقود طويلة الأجل، عندما تساءلت «هل يمكن للحوكمة أن تتحول من أداة شفافية إلى غطاء قانوني للاحتكار؟» إنه السؤال ذاته الذي يجب أن نطرحه اليوم على الاتفاقيات التقنية الدولية هل نستخدمها لخلق توازن؟ أم لتقييد مرونة المستقبل؟الحوكمة... من المجلس إلى الدولةما نراه اليوم هو انتقال مفهوم الحوكمة من داخل مجالس الإدارات إلى داخل منظومة الدولة نفسها. فالجهات الحكومية السعودية اليوم تعمل وفق نموذج «فصل السلطات» بطريقة مؤسسية: الجهات التنظيمية تضع القواعد، والجهات التنفيذية تدير المشاريع، والجهات الرقابية تضمن الالتزام، والمجلس الأعلى للشؤون الاقتصادية والتنمية يوجه البوصلة. بهذا المنهج تصبح الاتفاقيات الدولية امتدادا طبيعيا لحوكمة داخلية قوية، لا مغامرة سياسية ولا محاولة تسريع غير محسوبة.ختاما: الاتفاقيات لا تنجح بقوتها... بل بحوكمتهاالقيمة الحقيقية للاتفاقيات الكبرى ليست في حجمها، ولا في عدد البنود، بل في قدرة الدولة على إدارتها ومواءمتها مع مؤسساتها. ومتى ما امتلكت الدولة أدوات الحوكمة: سياسة واضحة، مؤسسات مستقلة، أدوار دقيقة، رقابة، شفافية... تحولت الاتفاقيات الكبرى إلى ثروة وطنية مستدامة لا مجرد إعلان سياسي. وهذا ما تصنعه السعودية اليوم: تحول الاتفاقيات الدولية من ورقة تفاهم... إلى منظومة حوكمة تحكم المستقبل لا تساق به.hatimbarajjash@