المجتمع والضوضاء العاطفية
الاثنين / 3 / جمادى الآخرة / 1447 هـ - 03:02 - الاثنين 24 نوفمبر 2025 03:02
تحدثت في مقالي السابق عن سرعة وصول المحتوى وفقدان الوعي بما أصبحنا نراه ونشاهده في منصات التواصل الاجتماعي، وكانت الآراء بين معارض ومؤيد للمقال، حيث يرى البعض أننا في زمن السرعة وليس هناك وقت للتأمل، بينما يرى البعض الآخر وأنا منهم أن تلك السرعة أفقدتنا متعة الأشياء.وبعد ردود الفعل المتباينة حول ذلك المقال تأملت مجددا حقيقة المجتمع الذي نعيش فيه الآن، ففي زمن ليس بعيدا كان الصمت جزءا طبيعيا من يوم الإنسان. كانت هناك لحظات بلا أصوات ولا أخبار ولا آراء متدفقة. أما اليوم، فلا يبدأ الصباح إلا بسيل من الإشعارات والرسائل والمقاطع القصيرة، حتى إن أبسط لحظة تأمل، كاحتساء القهوة، تزاحمها شاشة تشتعل بما يحدث في العالم. اختفى الصمت بصورته التقليدية، وظهرت ضوضاء جديدة لا تقاس بالديسيبل... بل بمقدار ما تحمله من مشاعر.هذه الضوضاء ليست صخبا صوتيا، إنما ازدحام عاطفي يتشكل من موجات الغضب الجماعي، وفرح متعجل، وتعليقات حادة، وردود فعل متتالية. حيث حولت المنصات كل إحساس إلى حدث قابل للانتشار، وكل لحظة انفعال فردية إلى شعور عام. يكفي الدخول إلى منصة واحدة ليجد الإنسان نفسه منتقلا بين عشرات الحالات الشعورية خلال دقائق، كأن المشاعر لم تعد ملكا لأصحابها، بل مادة متداولة بين الجميع.جزء كبير من هذا التحول يعود لضغوط الحياة الحديثة. الإيقاع السريع، القلق الاجتماعي، المقارنات المستمرة، توقعات النجاح المتضخمة... كلها ترتفع بدرجاتها يوما بعد يوم. في عالم يشعر فيه الفرد أنه مطالب بالسباق طوال الوقت، ويصبح الانجراف وراء المشاعر العامة أسهل من محاولة الحفاظ على توازن داخلي. الضوضاء العاطفية تمنح الإنسان انتماء لحظة بلحظة، لكنها تسرق منه فرصة الإنصات إليه.تسهم المنصات الرقمية في زيادة هذا الزحام. إذ تكافئ الخوارزميات المحتوى المشحون، لأن المشاعر تحفز التفاعل، والتفاعل يغذي المشاهدة. ففيديو بسيط لمشهد صادم قد يتقدم على خبر علمي مهم، وتغريدة مندفعة تحصد حضورا أعلى من تحليل متزن. هكذا تتشكل بيئة تدفع فيها المشاعر إلى الواجهة، بينما يتراجع التفكير الهادئ إلى الصفوف الخلفية.هذه الحالة لا تمر مرورا عابرا على الفرد. فالإرهاق الذهني يصبح جزءا من اليوم، والقرارات تتأثر بما يراه لا بما يفكر فيه، والقدرة على التمييز بين شعوره الشخصي وبين الموجة العامة تصبح أقل وضوحا. فجأة يجد الإنسان نفسه منجرفا في نقاشات لا تخصه، أو حاملا مشاعر لم يختبر سببها مباشرة. الضوضاء هنا تشبه طقسا نفسيا عاما يتقلب بسرعة، وكأن المجتمع يعيش داخل غرفة امتلأت بكل مشاعر العالم دفعة واحدة.أكثر ما يكشف عمق هذه الظاهرة هو السؤال البسيط: أين ذهب الصمت؟اللحظات التي كان المرء يقود فيها سيارته دون مؤثرات، أو يمشي دون سماعات، أو ينتظر دوره دون النظر إلى شاشة. هذه الفراغات الصغيرة كانت تمنح العقل فرصة لترتيب أفكاره، وللنفس مساحة لتستعيد توازنها. غياب هذه المساحات يحول الحياة إلى خط متصل لا يتوقف، يمتلئ بكل شيء ما عدا لحظة تنفس هادئة.استعادة الصمت لا تعني الانفصال عن العالم، بل إيجاد مساحة لا يشارك فيها أحد أفكارنا. لحظة قصيرة بلا شاشة، جلسة قهوة بلا هاتف، نزهة خفيفة بلا سماعات. خطوات تبدو عابرة لكنها تعيد ترتيب الداخل. الصمت ليس انقطاعا عن الحياة، بل طريقة مختلفة لعيشها. يضع الإنسان في موقع الفاعل لا المنفعل، المستمع إلى نفسه لا المتلقي لكل ما يصله من الخارج.يبقى السؤال مفتوحا: كيف يمكن للمجتمع أن يستعيد توازنه وسط هذا الكم من المشاعر المتدفقة؟ وهل نستطيع العيش دون متابعة المزاج العام لحظة بلحظة؟ وماذا يبقى من وعينا حين تزدحم المشاعر إلى حد يغطي فيها الضجيج على الهدوء الداخلي؟أسئلة تسلم بعضها إلى بعض، ولا تنتظر إجابات جاهزة بقدر ما تدعو إلى تأمل أطول وصمت أعمق.layla636@