الرأي

فلسفة الحظوظ... تأملات في اختلاف مسارات البشر

مطير سعيد الزهراني
تظل فكرة الحظ واحدة من أكثر القضايا التباسا في التجربة الإنسانية؛ فهي تقف في منطقة رمادية بين العدالة والمصادفة، وبين الاجتهاد والنتيجة، وبين ما يملكه الإنسان وما يتجاوز قدرته، ولأن الحياة لا تبدأ لجميع البشر من النقطة ذاتها، ظل سؤال الحظوظ محورا لجدل فلسفي طويل: هل ما يحدث لنا قدر محتوم، أم نتيجة مركبة تصنعها التربية، والبيئة، والفرص، والاستعداد النفسي؟وتتفق النظريات الفلسفية الحديثة على أن الحظ ليس قوة غيبية منفصلة، بقدر ما هو تفاوت طبيعي في الظروف الأولية التي يولد فيها الإنسان، فهناك من يبدأ حياته على أرض ثابتة، ومن يبدأ على أرض رخوة تحتاج إلى جهد مضاعف للوقوف عليها، وهذا التفاوت لا يعني ظلما بالضرورة، لكنه يكشف عن اختلاف جذري في خطوط البداية، وهو اختلاف تعترف به مدارس الفلسفة الأخلاقية، والاقتصاد السلوكي.وتشير دراسات السلوك الإنساني إلى أن ما نسميه الحظ هو خليط معقد من أربعة عناصر رئيسية:
  1. البيئة الأولى: العائلة، التعليم، الثقافة، والدعم المعنوي.
  2. الموقع الاجتماعي: العلاقات، شبكات التأثير، ونوعية الفرص.
  3. التوقيت: لحظة ظهور الفرصة أو غيابها، وهو عنصر لا يمكن التنبؤ به.
  4. الاستعداد الذهني: قدرة الإنسان على التقاط الفرص حين تمر أمامه.
وتؤكد أيضا على أن الإنسان قد لا يختار بيئته ولا توقيت الفرص، لكنه يملك تأثيرا كبيرا على استعداده الداخلي، أي على ما يسميه علماء النفس (الاتساق الذهني مع الفرصة)، فالفرصة قد تمر أمام شخصين، لكن يلتقطها واحد فقط؛ لأن وعيه كان مهيأ لها، بينما يراها الآخر حدثا عابرا.ومن زاوية العدالة، تذهب الفلسفة إلى أن البدايات غير متساوية، لكن المسارات قابلة للتعديل، فالإنسان لا يغير نقطة انطلاقه، لكنه قادر - عبر العمل والبحث والوعي - على تغيير نقطة وصوله، وهنا يظهر الفرق بين الحظ الذي يعطى، والفرصة التي تصنع، والمنجز الذي ينتزع.ومع ذلك، تعترف الفلسفة الحديثة بوجود مساحة لا يمكن تفسيرها: مساحة يسميها بعض المفكرين (عشوائية الحياة)، وهذه المساحة لا يستطيع الإنسان السيطرة عليها، لكنها لا تلغيه، ولا تلغي أثر جهده، بل تمنحه تحديا إضافيا يجعله مسؤولا عن كيفية تحركه داخل ظروفه لا عن تلك الظروف نفسها.وليس الجدل حول الحظوظ نقاشا عن العدالة وحدها، بل عن الوعي أيضا؛ فالقيمة الحقيقية لا تقاس بما نبدأ به، بل بكيفية استثمار ما لدينا، قليلا كان أو كثيرا، والنجاح لا يرتبط بعدد الفرص المتاحة بقدر ما يرتبط بقدرة الإنسان على تحويل الفرص المحدودة إلى طريق واضح، وربما إلى تفوق غير متوقع رغم ضيق الحظ.وهكذا تظل الحظوظ عنصرا من عناصر الحياة، لا جوهرها كله؛ فمسار الإنسان يتشكل دائما بين ما يمنح له وما يصنعه بيده، وبين ما يقع خارج إرادته وما يختار فعله بما هو متاح له.