النقد من النظرية إلى التطبيق
الاثنين / 3 / جمادى الآخرة / 1447 هـ - 02:45 - الاثنين 24 نوفمبر 2025 02:45
لم يعد النقد الأدبي ذلك الحقل المعزول داخل قاعات الجامعة أو بين دفتي الكتب المتخصصة. لقد أصبح جزءا من المشهد الثقافي اليومي، ومكونا أساسيا في صناعة الوعي الجمالي والمعرفي. غير أن المشكلة التي تواجه القارئ اليوم تكمن في الفجوة الواسعة بين النظرية النقدية كما صاغها رواد الفكر الأدبي، وبين التطبيق كما يمارسه كثير من الكتاب والمهتمين الذين اندفعوا إلى ميدان النقد دون أدوات منهجية حقيقية، ودون تدريب يقيهم الوقوع في أخطاء قاتلة أصبحت تتكرر بصورة مقلقة.يمتلك النقد منظومات معرفية معقدة: مناهج، مصطلحات، سياقات، وإجراءات تحليلية. وكل هذه ليست للزينة، بل هي أسس تمنح القراءة النقدية جدارتها وعمقها. لكن ما يحدث في المشهد الثقافي العربي اليوم يظهر أن هذه النظرية كثيرا ما تتحول إلى زينة لغوية يرددها البعض دون وعي، فيزجون بأسماء المناهج الكبرى مثل التفكيك والبنيوية والتحليل النفسي والثقافي في مقالاتهم، ثم ينتهون إلى تطبيق لا يمت لها بصلة، أو قراءة انطباعية مغلفة بطلاء اصطلاحي.أخطاء كثيرة يقع فيها الممارسون الجدد؛ أهمها اختزال النص لصالح رأي مسبق، وكأن الناقد جاء ليؤكد ما يريد لا ليكتشف ما يخفيه النص. ومنها أيضا تحميل النص ما لا يحتمل، فيحشر كل قول تحت منهج لا يناسبه، وكأن التطبيق مجرد لعبة تركيب. وبعضهم يظن أن الاقتباس العابر لكلمات مثل «البنية» و«السياق» و«العلامة» يجعل من مقاله نقدا، بينما تلك المفاتيح في يد غير خبير تتحول إلى جمل بلا عصب، وإلى خطاب نقدي مشوه يضر بالنص أكثر مما يفيده.ومن الخطايا المتكررة كذلك القفز على إجراءات المنهج. فالنقد ليس عنوانا يكتب، بل خطوات دقيقة تبدأ من قراءة النص، وتفكيك وحداته، ورصد علاقاته الداخلية والخارجية، ثم ربطها بنظرية محددة. لكن بعض الممارسين يبدأون من النهاية، فيكتبون النتائج قبل التحليل، ويقدمون الحكم قبل البرهنة، ويستسهلون الحديث عن «أفق التلقي» أو «تفكيك المركزيات» دون المرور على مراحل التحليل الفعلية.وتزداد خطورة هذا الخلل حين يصبح التطبيق النقدي منبرا لإرضاء العلاقات أو المجاملات الثقافية. فيرفع نص ضعيف لأنه لكاتب صديق، ويهمل نص مبدع لأنه لكاتب بعيد عن الأضواء. وحين يتخلى النقد عن وظيفته العلمية يصبح مجرد رأي مزوق، لا يختلف كثيرا عن تعليق عابر في منصات التواصل.النقد الحقيقي ليس ترفا، ولا استعراضا لغويا، ولا منافسة على حضور إعلامي. النقد معرفة ومنهج ومسؤولية اتجاه النص، واتجاه القارئ، واتجاه المشهد الثقافي كله. وما لم ينتقل كثير من الممارسين من النظرية كشعار إلى النظرية كأداة، سيظل النقد العربي يعاني من هذا الانفصال الذي يجعل التطبيق هشا، والقراءة سطحية، والنتائج أقرب إلى الانطباعات منها إلى التحليل العلمي.إن إعادة الاعتبار للنقد بوصفه علما وفنا تبدأ من احترام النص، واحترام المنهج، واحترام القارئ. فليست المشكلة في النظريات، بل في من يرفعها دون أن يفهمها، ويطبقها دون أن يتقنها. وبين النظرية والتطبيق مساحة واسعة لا يقطعها إلا الناقد الحقيقي؛ ذلك الذي يدرك أن القراءة مسؤولية، وأن النقد فعل كشف لا فعل تزييف، وأن النص وحده هو الذي يحدد الطريق، لا هوى الناقد ولا مزاجه.moslah99@