الرأي

شعب الإينويت: أبناء الثلج الذين ورثوا البياض

لبنى حجازي
في أقصى شمال العالم، حيث تصافح الأرض السماء بصفحة من ثلج، وتغدو الرياح ألسنة من برد لا تطاق، يعيش قوم حفظوا سر الدفء في قلوبهم. إنهم شعب الإينويت، الذين عرفوا في اللغات القديمة باسم 'الإسكيمو'؛ أولئك الذين اختاروا أن يسكنوا الحافة البيضاء من الوجود، ويصنعوا من الجليد مأوى، ومن الصقيع وطنا.

أبناء الجليد وأساطير البقاء

يقيم الإينويت في سواحل غرينلاند وكندا وألاسكا وشمال سيبيريا، في مناطق لا ترى الشمس إلا حياء، ولا تعرف الربيع إلا زائرا عابرا. ومع ذلك، استطاعوا أن يجعلوا من هذه القفار الجليدية موطنا للحنين والحياة.

يبنون من الثلج بيوتا تدعى الإغلو، تحاك جدرانها من صفائح بيضاء تدفئهم بأعجوبة هندسية، كأنما للبرد في حضارتهم لغة أخرى غير الفناء.

ولأنهم أبناء الجليد، تعلموا أن يصادقوا القسوة، وأن يروضوا الطبيعة بيد من حذر وذكاء. يصطادون الفقم والحيتان بالرمح، ويركبون الزلاجات التي تجرها الكلاب كأنها سفن في محيط من الثلج.

حكمة البساطة وصوت الريح

في ثقافتهم، لا يوجد فصل بين الطبيعة والإنسان؛ فكل ما حولهم حي له روح وصوت.

الريح عندهم جدة عجوز تروي الحكايات، والبحر كائن غاضب إن أسيء إليه، والقمر صديق يرشد الصيادين في الليالي الطويلة.

وللأرواح في عقيدتهم حضور دائم؛ يعتقدون أن الموتى يرحلون إلى عالم سفلي مغمور بالماء، وأنهم يعودون في صورة الحيوانات التي يصطادونها.

لذا، حين يذبح الإينوي فقمة، يغمض عينيها أولا احتراما لروحها.

لغتهم وأغنية الثلج

يتحدث الإينويت لغة غنية بالصور؛ ففيها عشرات الكلمات للثلج، ومئات التعابير لوصف حالاته وتحولاته.

تلك اللغة التي ولدت من رحم الصقيع تشبه قصيدة لا تنتهي، ينسجها الإنسان ليقول «أنا هنا، في أقصى البرد، وما زلت أعيش».

ولهم أغنيات تردد في حلقات دائرية، ترافقها أصوات الطبول المصنوعة من جلد الفقمات، تشعل الدفء في الأرواح أكثر من أي نار يمكن أن تشعلها يد.

بين العزلة والحفاظ على الهوية

رغم أن رياح الحداثة وصلت إلى مواضعهم، ما زال الإينويت يكافحون للحفاظ على لغتهم وعاداتهم في مواجهة العولمة الصاخبة.

لقد بدلوا بعض الأدوات الخشبية بالحديد، وارتدوا معاطف من مصانع بعيدة، لكنهم ظلوا أوفياء لجوهرهم: أن يعيش الإنسان في انسجام مع الطبيعة، لا في صراع معها.

درس في الفناء والحياة

حين تتأمل وجوه الإينويت المحمرة من البرد، تدرك أن البقاء ليس فقط مسألة طعام ودفء، بل هو إيمان بأن للحياة معنى، حتى في أقسى زوايا الأرض.

لقد علمونا أن الإنسان لا يقاس بما يملك، بل بما يستطيع أن يصنعه من لا شيء؛ أن يجعل من الجليد مأوى، ومن الليل الطويل وقتا للغناء.

شعب الإينويت ليسوا مجرد صفحة في كتب الأنثروبولوجيا، بل رمز لما يمكن أن تفعله الروح حين تواجه المستحيل. هم أبناء النور الذي ولد من رحم الظلام، وسدنة الثلج الذين كتبوا قصيدتهم الكبرى من نبض الحياة.