الرأي

بين واشنطن والرياض... قراءة في مسار يتشكل

عبدالله فدعق


لا شك أن زيارة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، للولايات المتحدة الأمريكية مؤخرا، جاءت لتعيد تأكيد مسار تتحرك فيه المملكة بثبات، وتعمل من خلاله على ترسيخ حضورها في عالم تتغير معادلاته بسرعة متناهية.

الزيارات الرسمية ليست مجرد محطات بروتوكولية، بل اختبارات عملية لمدى نضج الدولة وقدرتها على إدارة مصالحها وصياغة علاقاتها مع القوى الدولية، وقد بدا واضحا أن القمة السعودية الأمريكية لم تكن حدثا منفصلا، بل جزء من بناء متدرج لرؤية سياسية واقتصادية تسعى المملكة من خلالها إلى تعزيز موقعها، وتوسيع خياراتها، وتنويع شراكاتها، وهو ما ظهر في الملفات التي حملتها القمة، وفي طبيعة الاتفاقات ومذكرات التفاهم التي وقعت، والتي شملت مجالات الدفاع، والاقتصاد، والذكاء الاصطناعي، والتعليم، وسلاسل الإمداد، والاستثمار، والصناعات الحيوية، ولا شك أن مثل هذه الملفات ليست شكلا من أشكال التوسع الفني أو الإجرائي، بل مؤشر على مسار طويل يجمع بين طموح الدولة وإدراكها لدورها في المنطقة والعالم؛ فهي شراكات قائمة على الندية وتبادل المصالح، لا على مجاملة سياسية أو مصالح شخصية، وهو نمط من العمل ينسجم مع التحولات التي تقودها المملكة في الداخل، ومع رؤيتها في توسيع حضورها الخارجي بصورة متوازنة ومسؤولة.

كان لافتا في زيارة سمو سيدي ولي العهد لواشنطن ما بدا من براعة قيادية في إدارة المواقف والحوارات؛ إذ لم يكن الهدف تسجيل نقاط أو الرد على إشارات إعلامية، بل تقديم صورة واضحة عن موقع المملكة ورؤيتها، وطريقة تعاملها مع الملفات الحساسة، والبراعة هنا ليست بلاغة لفظية، بل قدرة على قراءة اللحظة، وتحديد ما يقال وكيف يقال، واختيار المساحة التي يكون فيها الصمت أدق من الكلام، وهذه القدرة جعلت الحضور السعودي في واشنطن حضورا هادئا من غير أن يكون ضعيفا، وواثقا من غير حاجة إلى مبالغة، ومباشرا في طرح الملفات دون تهوين أو تهويل؛ وهو ما منح القمة بعدها العملي، وفتح الباب أمام مستوى أعلى من التنسيق، خصوصا في الملفات التي تتعلق بالأمن الإقليمي، والاقتصاد، والتقنية المتقدمة، ومهم هنا الإشارة إلى أن هذا «الفتح» للملفات وهذه التحركات، لا تقرأ بوصفها ردود فعل ظرفية، بل باعتبارها جزءا من إعادة هندسة أوسع لموقع المملكة في العالم؛ فالمشهد الدولي اليوم أكثر تعقيدا، وتداخل المصالح فيه بات أوضح من أي وقت مضى، مما يجعل بناء الشراكات الاستراتيجية خيارا تقوم عليه الدول التي تريد أن تحجز وتثبت لنفسها موضعا راسخا في خريطة المستقبل، لا مجرد حضور عابر.

من ينظر في طبيعة الاتفاقات الأخيرة يدرك أن المملكة لا تتعامل مع القمم الدولية بوصفها مناسبات إعلامية، بل كمنصات تدار فيها شؤون الدولة وتبنى من خلالها قواعد المستقبل؛ فشراكات الدفاع، وترتيبات الاستثمار، وتطوير الذكاء الاصطناعي، وتوسيع مجالات التعليم والتدريب، ليست خطوات تجميلية، بل روافد عملية في صناعة دولة عازمة على استمرار البناء وتحقيق الازدهار؛ وفي نهاية المشهد، تبقى القاعدة التي لا تتبدل هي أن العلاقات بين الدول لا تستقيم بالصوت المرتفع، ولا بالتعليقات السريعة، بل بما يترسخ عبر رؤية واضحة وعمل متقن، وهذه سنن جارية؛ فالقوة تبنى على العدل والوضوح، والقيادة تعرف بصدق نيتها وحسن عملها، والدول التي تنطلق من ذلك تحفظ مكانتها في ميزان الزمن، وتظل قادرة على عبور التحولات مهما تعاظمت؛ وبأمر الله، ستظل المملكة بقيادتها الواعية ماضية بثبات، وبصوت قوي وجلي.