الرأي

صمت الرجال يحمل ألف كلمة لا تسمعها النساء

نيفين عباس
داخل كل رجل زحام لا يرى وضجيج لا يسمع وأفكار تتنازع ومسؤوليات تتدافع، فذاكرة الرجل تثقل صدره بما لم يقله وبما يخشى أن يقال، فالرجل لا يعبر عن كل ما يختلج بداخله، بل يحفظ كلماته كما يحفظ الحصن أبوابه، فيكون صمته أعظم بيرق، وسلاحا أصدق من أي كلام، فضاء يستقر فيه بين نيران عاطفته وعاصفة عقله، يحتفظ داخله بأسرار يوازن فيها آلامه وأفراحه دون أن يعرفها أحد أو يحكم عليها، كحصن من العواطف المتلاطمة التي تتعانق فيها المسؤولية مع الشوق، مرآة تظهر عمق معركته الطويلة مع نفسه دون أن يسمح للآخرين برؤيتها أو المشاركة فيها.صمت الرجال عالم تختزل فيه الآلام والأشواق قبل أن تقاس على أقدار حياتهم، لغة بليغة وعلامة على قوة مستترة في خضم الصراعات والظروف القاهرة الحياتية، يمارس الرجل كبح جماح لسانه كقوة توازي أبلغ الخطابات، فهو يحفظ بها توازنه، ويصون نفسه من الانكسار أمام ما يفوق طاقته، الصمت ليس ضعفا، بل وقاية من التفتت، كسياج يحفظ للأمل مكانا في قلبه، يقول عنتره بن شداد «أقاتل كل جبار عنيد ويقتلني الفراق بلا قتال». وهو تعبير بليغ عن خوض الرجال أشرس المعارك لكن يهلكهم البعد عن الأحبة بلا قتال، فحين يصمت الرجل تظنه المرأة انطفأ، أو أن قلبه غادرها إلى أخرى، بينما الحقيقة كثيرا ما تكون أبعد من خيالها؛ فهو لا يصمت كمن يهرب، بل كمن يختنق، بسبب زحام في رأسه لا يسعه كلام، يدخل في صوم ذهني مؤقت يحاول فيه أن يرتب فوضاه، ويعيد اتزانه قبل أن يخرج للعالم من جديد، فداخل عقله ضوضاء وملفات مفتوحة، يعيش مخاوف يضعها داخل درج لا يملك أحد مفتاحه سواه، هدوؤه ضجيج بالتفكير في الغد، في الواجبات، في مسؤوليات تلقي بثقلها على قلبه قبل عقله، السكوت ليس رفضا ولا قسوة بل هو صمت يختزن تخطيطه للمستقبل لحماية الأسرة، يزن الأمور قبل أن تخطر على لسانه، يفضل السكوت لأنه حين يتحدث لا يفهم وقد يساء تفسير نواياه، فالكلمات البسيطة التي تحمل مصلحة المنزل تقرأ على أنها غضب أو انشغال أو عدم تحمل مسؤولية أو غياب عاطفي أو اعتراض على حياة مشتركة، رغم أن صوته يحمل اعتبارات الحكمة والتدبير، هذه الصمتية في جوهرها تعبير عن التفاني، لكنه يشعر أن هذا التعبير الذي يجول في خاطره قد يخلق خلافا أو يشوش على التوازن الدقيق الذي يحاول الحفاظ عليه، لذا يختار الصمت محاولا أن تدار الحياة بسلاسة حتى لا تصل الأمور لطريق مسدود، يقرر التنازل تاركا مسافة تحمل الشك والأسئلة تجاهه، بالرغم من أن قلبه وعقله يعملان لصالح كل من حوله دون أن يفكر في نفسه، وقد يكون خارج الإطار لكنه يتحمل ولا يطلب أكثر من مساحة هدوء.الصمت الذي يعتصر الرجل ليس فراغا، بل هو وزن ثقيل من المسؤولية تحمل بين طياتها التفكير فيما هو آت، وتقدير لعواقب كل كلمة يمكن أن يقولها أو فعل يقدم عليه أو يصبح مطالبا بفعله بغير أوانه، فقد تكون قدراته الحالية تتعارض مع المتطلبات، لذلك يفضل التخطيط في هدوء، لكن يقابل بسوء الظن وعاصفة من الانتقادات، الرجل ضحية النشأة، فمنذ الصغر تربى على أن لا يظهر ضعفا أو يشتكي، لا يسمح لعاطفته أن تقوده بلا حدود، فثقافة الشكوى لا مكان لها بين الرجال، وكل تعبير عن اضطراب داخلي يساء فهمه ويقلل من قيمته، حديثه يفسر بشكل خاطئ دائما بالرغم أن نواياه في صميمها تصب في مصلحة الأسرة، صمته أمام زحام الحسابات والتقديرات، هو محاولة للحفاظ بين ما يشعر به وما يجب أن يظهره، بين قلبه وروحه، بين مسؤولياته وواجباته، فكل كلمة تقال في غير وقتها قد تحول الجهود إلى خلاف يقلب الدنيا رأسا على عقب، فهو لا يتقن البوح الفوضوي، لا يعرف كيف يشرح ما يؤلمه، صمته ليس جفاء بل محاولة لترتيب العالم الذي ينهار داخله ببطء، لا يعلم كيف يشارك اضطرابه، ولم يمنح رفاهية الانهيار في حضن أحد أو أمامه.مجملا الحب عند الرجل ليس كما تتخيل المرأة بأنه مرهون بشراء الهدايا وإغراقها بكلمات معسولة، بل يرتبط بمستقبل آمن للأسرة، أما المرأة التي نشأت على التعبير، فتقرأ المشهد من زاويتها التي تقيم العالم بالعاطفة، ترى انسحابه فجوة في الحب، وصمته حكم بالإقصاء، وهروبه من الحديث إهمال متعمد، فتحاول التقرب لتفهم، فيبتعد ليلتقط أنفاسه، وتتسع الفجوة أكثر، فهو يحتاج الهدوء لترتيب ذاته، وهي تحتاج صوتا لتطمئن إليه، وبين الحاجتين يولد سوء الفهم الأبدي، هو لا يدرك أن صمته يخيفها، وهي لا تترجم صمته إلا جدارا يقام بينه وبينها، فتهرع لتمطره بوابل من الأسئلة التي تسكنها الريبة فلا تتلقى إجابة، فتقرر أن تعيش تحارب خيالا لا وجود له يحول الحياة لجحيم لا يطاق، يفسر فيه غيابه على أنه انسحاب، وهدوؤه برود، وتفكيره خيانة، ويتحول ما كان جميلا بالأمس لكلمات جارحة ونظرات حادة وأفعال قاسية، شتان بين راحة وألم خافت منطفئ بالمسكنات.NevenAbbass@