الرأي

حين تصحو الفطرة على أنين الغياب

أحمد محمد القزعل
في لحظة من لحظات الصمت العميق، حين تخفت الأصوات وتغيب الضوضاء، تصغي الروح لأنين خافت لا يسمعه إلا القلب، إنه أنين الفطرة حين تصحو بعد أن طال غيابها.

تنهض الفطرة من سباتها كطفلة تستيقظ على بكاء مكتوم في صدر أمها، فتسأل بدهشة: ما بال العالم تغير؟ أين دفء المشاعر؟ أين الصدق الذي كنت أتنفسه؟، نعم إن الفطرة لا تموت، لكنها تصاب بالنعاس حين يطول زمن الزيف، وما أكثر ما نغيبها فينا ونحن نظن أننا نحيا!

الفطرة هي الصوت الأول الذي ولد معنا، هي البراءة التي جعلتنا نضحك دون سبب، ونبكي لدمعة في عين غيرنا، هي تلك الشفافية التي كنا نرى بها الجمال في كل شيء، حتى في غيمة تمضي أو طائر يغني على حافة الأفق.

لكننا حين كبرنا ألبسنا الفطرة ثياب المنطق والمصلحة، فسكتت حتى ظننا أنها غابت، لكنها لم تغب، بل انتظرت في أعماقنا اللحظة التي نحتاج فيها إلى إنسانيتنا لننجو، الفطرة تصحو حين تضيع القيم، وتبكي حين ترى الكبار يعلمون الصغار الخداع باسم الذكاء، والقسوة باسم التربية، والصمت عن الحق باسم الحكمة، عندها يصبح أنينها مرآة لنا، تذكرنا بأننا لسنا كما يجب أن نكون.

حين يغيب الصدق تبكي الفطرة، فالصدق هو أول رفيق للفطرة فإذا غاب ضاع الطريق، وحين نرى الكذب يلبس ثوب النجاح والرياء يزاحم الطهارة تئن الفطرة في داخلنا وتقول: ما هكذا خلقتم!

الفطرة لا تحتمل الزيف، هي تعرف النور من العتمة، حتى لو تلونت العتمة بألوان براقة؛ ولهذا فإن أصدق تربية يمكن أن نمنحها لأبنائنا هي أن نعيدهم إلى تلك البساطة الأولى، أن نعلمهم أن الحق جميل ولو كان مرا، وأن الصدق نعمة ولو آلم، وأن أجمل الوجوه هي التي تشبه قلوب أصحابها.

الفطرة ليست مجرد مفهوم روحي، بل هي صرخة إصلاح، كل مرة نكذب فيها على أنفسنا، كل مرة نبرر خطأ باسم: الضرورة، كل مرة نغض الطرف عن ظلم صغير، تئن الفطرة في داخلنا، لكنها لا تيأس؛ فهي تصحو كلما رأينا مشهدا من الجمال، كلما سمعنا ضحكة طفل، أو رأينا يدا تمتد لمساعدة محتاج دون مقابل، تقول لنا بصوتها الخافت: لا يزال فيكم خير ونور.

ما أجمل أن نعود إلى تلك البساطة التي كانت تجعلنا نفرح بقطرة مطر، وتجعلنا نحزن لألم غيرنا وكأنه ألمنا، الإصلاح الحقيقي لا يبدأ من القوانين بل من القلوب، من لحظة صدق مع النفس، من كلمة طيبة تقال، من نظرة رحمة، ومن موقف صغير لا يراه أحد إلا الله.