الشللية الثقافية... خلل في هندسة الوعي الثقافي
الاحد / 25 / جمادى الأولى / 1447 هـ - 19:06 - الاحد 16 نوفمبر 2025 19:06
تتشكل الظواهر الثقافية في أي مجتمع نتيجة تراكمات طويلة بين البنى المؤسسية، والتصورات الجمعية، وأنماط الفعل المتكرر داخل الحقول الإبداعية، وبين هذه الظواهر، تتسلل الشللية الثقافية باعتبارها انحرافا صامتا عن قيم الانفتاح والتعدد والتنافس الشريف، نحو منطق التمركز والدوائر الضيقة، الذي يعيد إنتاج المشهد الثقافي وفق معايير غير موضوعية، بل وغير معلنة.
الشللية ليست مجرد صداقات أو تقاربات إنسانية طبيعية بين بعض المثقفين، بل هي حين تتحول هذه العلاقات إلى معيار فعلي لتوزيع الفرص، وصياغة الذائقة العامة، وتحديد من يحضر ومن يُغيّب، دون أن تعلن عن نفسها كسلطة، فهي ليست كيانا ظاهرا، ولا تمارس عبر قرارات مكتوبة، بل تتغذى على شبكات التأثير غير الرسمية، وتعمل عبر ممرات العلاقات والتقاطعات، دون رقابة أو محاسبة معرفية.
ما يثير القلق في هذا النمط من التنظيم الثقافي غير الرسمي هو أنه يفرغ معايير الجدارة من معناها، في مقابل تصعيد علاقات الولاء والقرابة والانسجام الشخصي، يصبح الإبداع نفسه مشروطا بالانتماء لا بالكفاءة، ويتحول التمثيل الثقافي من كونه حقا مشروعا للجميع، إلى مكافأة تمنح لمن ينتمي، أو يرضي، أو يتماهى.
ولأن الشللية الثقافية تعمل داخل الفضاء غير المعلن، فهي تنجو غالبا من المساءلة، لا أحد يعترف بها، ومع ذلك يشعر بها الجميع، تظهر نتائجها في قوائم الدعوات والورش والمؤتمرات، في أسماء تتكرر بلا تفسير موضوعي، وفي تغييب ناعم لكفاءات واعدة لا تملك نافذة عبور إلى الداخل، هذه الديناميكية تعيد تشكيل الوعي العام بطريقة خفية، تجعل المتلقي ذاته يعتاد على أصوات بعينها، ويشكك في أي حضور جديد لم يباركه السياق المكرس.
وبتحليل أعمق، يمكننا فهم الشللية الثقافية بوصفها انعكاسا لأربعة اختلالات كبرى في البيئة الثقافية:
1 - اختلال معيار الجدارة: حيث لا يحتكم إلى الكفاءة أو المنجز، بل إلى القرب والعلاقة، ما يعني تآكل العدالة الثقافية، وتحويل الفضاء الإبداعي إلى مساحة انتقائية مغلقة.
2 - انكماش التنوع: فحين تتكرر الوجوه والخطابات، تصاب الذائقة العامة بالتسطح، ويضيق أفق الثقافة نفسه، ويتحول من مختبر للأسئلة الجديدة إلى أرشيف للمعاد والمألوف.
3 - إضعاف المحفزات: إذ يتراجع الحافز المعنوي لدى الكفاءات الجديدة أو المهمشة، عندما تدرك أن الاعتراف لا يبنى على منجزها، بل على مكانتها في الخريطة الاجتماعية.
4 - تشويه الذاكرة الثقافية: فالمشهد الذي يعاد إنتاجه عبر العلاقات لا يعكس الحقيقة، بل يصنع ذاكرة ثقافية زائفة تقصي أطرافا فاعلة، وتقحم أخرى لمجرد امتلاكها مفاتيح الوصول.
هذا الخلل لا ينتج فقط عن النوايا أو الاختيارات الفردية، بل من غياب أنظمة الحوكمة الثقافية الرشيدة، وافتقار المؤسسات إلى معايير شفافة للتمثيل والاختيار، ولذلك لا يمكن تفكيك الشللية الثقافية فقط من خلال النقد الأخلاقي، بل عبر مساءلة البنية المؤسسية، ومتابعة أنماط التمثيل، وتحليل آليات الاستدعاء والإقصاء، ومعرفة من الذي ينتج القائمة، ومن يقرر حدود المشهد.
ولعل أبرز ما ينبغي التنبه له هو أن الشللية الثقافية حين تتكرس، تنتج ما يمكن تسميته بثقافة الامتثال، حيث يضطر المبدع الحقيقي إما إلى الانضمام للدوائر، أو الصمت، أو الهجرة إلى فضاءات بديلة خارج السائد، وبهذا تفقد المؤسسات الثقافية حيويتها، وتتحول إلى بيئة تكرر ذاتها، وتقصي المختلف.
لذلك، لا بد من بناء بيئة ثقافية صحية، لا تعني بالضرورة إلغاء العلاقات الشخصية، بل تحييدها عن مواقع التمثيل واتخاذ القرار، ويجب إعادة الاعتبار للمعايير الموضوعية، وتعزيز مؤشرات التنوع والعدالة في التمثيل الثقافي، وتوثيق آليات الدعوة والاختيار، وإخضاعها لتقييم دوري يضمن شمولها وتجددها.
إن الوعي الثقافي يبدأ من فهم الطريقة التي يتشكل بها الخطاب ومن يشارك في بنائه، فحين تتاح المساحة للجميع، تبقى الثقافة حية في وجدان أبنائها، وحين تضيق، تفقد صلتها بهم مهما بدا حضورها ظاهرا.