الرأي

عودة الذات العربية: من الاستلاب إلى الاعتزاز

نوال حسن المطيري


في زمن تداخلت فيه الأفكار وتناقضت القيم، ضاعت بوصلة العربي بين ما يراد له أن يكون، وما كان عليه حقا. كانت الهوية العربية تتأرجح بين الرغبة في التحديث والخوف من الذوبان في الثقافة الغربية. تاهت الملامح حين ظن بعضنا أن العروبة قيد، لا عمق، وأن البداوة ضعف، لا أصل. لكن شيئا في الذاكرة ظل يقاوم، تلك الفكرة التي تقول: من يعرف أصله، لا يطلب من الآخرين اعترافا بوجوده.

لقد كانت الجزيرة العربية منذ فجر التاريخ نواة الوجدان العربي ومهده الأول. منها انطلقت اللغة، وتكونت القيم التي شكلت صورة الإنسان العربي: كريم في عطائه، معتز بحريته، وفي بوعده، لا يرضخ لهيمنة ولا يتنازل عن كرامته. حياة الصحراء لم تكن قسوة فحسب، بل مدرسة في البساطة والانضباط والتوازن النفسي. فهي التي كونت الإنسان الذي يفكر بعزة لا بعقدة، ويعيش بانسجام مع فطرته لا بانسلاخ عنها.

غير أن هذا الإرث لم يسلم من محاولات التشويه الفكرية التي جاءت مع الموجات الثقافية الوافدة، ومع الخطاب الغربي الذي حاول إعادة تعريف العربي والبدوي بصورة تهمش قيمه وتبسط حضارته، حتى صار بعض أبنائه يرون أصالتهم عبئا لا فخرا. كما بدأ الهجوم الأيديولوجي الناعم على هوية البدو والعرب في الجزيرة. لم يكن هجوما بالسلاح، بل باللغة والسرديات. صور البدوي في كتابات المستشرقين مخلوقا غريبا: شجاعا ولكن جاهلا، حرا ولكن متخلفا، نبيلا ولكن بدائيا. تلك الازدواجية كانت مقصودة، فهي تمهد لإقناع الشعوب بأنها بحاجة إلى «من يوجهها» لا إلى من يشاركها الندية.

كتب توماس إدوارد لورنس في أعمدة الحكمة السبعة أن البدوي «يعيش في عالم من الكبرياء والولاء، لكنه لا يعرف كيف يبني دولة»، وهو وصف يختصر جوهر النظرة الاستعمارية: الإعجاب الممزوج بالوصاية. أما الرحالة كارستن نيبور فقد قال عن سكان الجزيرة في القرن الثامن عشر «إنهم أحرار لا يرضخون لسلطة، لكن جهلهم يمنعهم من الرقي»، وهي عبارة تبدو مديحا سطحيا لكنها تحمل ازدراء فكريا عميقا.

هذه الصور تسللت ببطء إلى الوعي الجمعي، حتى بدأ العربي ينظر إلى ذاته بعيون الآخر، يقيس قيمه بمقاييس ليست له، ويشكك في إرثه الذي كان يوما مصدر فخره. ومع مرور الأجيال، تحولت النظرة إلى «البدوي» من كونه رمزا للحرية والكرامة إلى كليشيه ساخر في الخطاب الشعبي والإعلامي. لم يكن ذلك صدفة، بل نتيجة تراكمات نفسية طويلة زرعت في اللاوعي الجمعي شعورا بالنقص أمام «الآخر المتحضر».

إن أخطر ما واجه الهوية العربية لم يكن السلاح، بل الهجوم النفسي الناعم الذي جعل الإنسان يشك في ذاته. حين يقنعك الآخر أن قيمك مجرد «أساطير»، وأن تاريخك رجعي أكثر من كونه حضاريا، تبدأ معركة داخلية لا ترى: معركة قبول الذات. هذا ما عاشته أجيال كاملة تربت على تقديس كل ما هو غربي، حتى فقدت الثقة بقدرتها على الإبداع من داخل بيئتها.

لكن شيئا ما تغير في العقد الأخير. بدأت المملكة العربية السعودية تعيد تعريف الحداثة من منظورها الخاص. لم تعد الهوية نقيضا للتطور، بل ركيزة له. عادت اللغة العربية لتتقدم في الإعلام والفنون، وعاد الاعتزاز بالعادات والموسيقى والمكان. أصبحت المرأة شريكة في البناء، والرجل حاملا لإرثه لا متبرئا منه. أصبح الحديث عن البدو ذاكرة شجاعة وصورة الإنسان الأول الذي عاش بكرامة وواجه الحياة كما هي.

من الناحية الفكرية، ما يحدث اليوم يمكن اعتباره تحولا في الوعي الجمعي العربي. فقد بدأ جيل جديد يدرك أن الأصالة لا تعني الجمود، وأن التقدم لا يعني اقتلاع الجذور. لقد استعاد العربي علاقته بذاته بعد قرن من محاولات تغريبه، وبدأ يرى أن التنمية لا تكون إلا إذا انطلقت من الداخل.

أما من الناحية النفسية، فعودة الاعتزاز بالهوية تمثل استشفاء من عقدة النقص الثقافي التي زرعت طويلا في اللاوعي الجمعي. الإنسان الذي يصالح ذاته يصبح أكثر إبداعا وثقة، لأنه لا يبحث عن قبول الآخرين بقدر ما يسعى لتحقيق قيمه. حين يعرف من هو، يعرف أيضا ماذا يريد، وكيف يتعامل مع العالم بندية واحترام متبادل.

إن ما يحدث اليوم ليس مجرد نهضة اقتصادية أو تحول اجتماعي، بل بعث للذات العربية بعد مرحلة من الاغتراب الرمزي. العودة إلى الذات لا تعني الرجوع إلى الوراء، بل استعادة الاتجاه الذي تاه وسط صخب الحداثة المتسارعة. نحن الجذور التي لم تقتلعها الرياح، والهوية التي كلما حاولوا طمسها، ازدادت وضوحا.