الرأي

البحث العلمي ومستقبل المدن إلى أين؟

وليد الزامل


لطالما جاء الحديث عن مستقبل المدن في سياق وصفي للدلالة على الموضوعات الأكثر اهتماما حول التقنية وتوظيفها بشكل يخدم سكان المدن. وبلا شك فرضت التحولات التكنولوجية زيادة اهتمام صناع القرار لتطوير منظومة تتماشى مع متطلبات العصر وتتغلب على الإشكالات الحضرية المتوقعة، لا سيما في سياق التكيف المناخي، والتلوث البيئي، والازدحام المروري، وندرة الموارد، وزيادة الطلب على الإسكان. وهذا ما يدعونا للتفكير حول مستقبل المدن بين المرونة وتأهيل البنى التحتية من جهة وتلبية احتياجات المجتمع من جهة أخرى.

وفي ظل التطورات التقنية والعلمية التي نشهدها تبقى العلاقة بين السكان والموارد من الموضوعات التي تستحوذ على اهتمام الباحثين والمفكرين. يشير ديفيد هارفي في كتاب بعنوان «فضاءات رأس المال: نحو جغرافية نقدية» إلى قضايا أخلاقية هامة تكشف عن مدى تعقيد هذه العلاقة؛ لأن العلم نفسه لا يخلو من تحيزات أيديولوجية، أو بسبب وجود مشاكل في الطرق العلمية التي نعتمد عليها في البحث. يسلط هارفي الضوء على حقيقة هامة مفادها غياب الحيادية الأخلاقية المطلقة في الأبحاث العلمية وخاصة تلك التي تتناول العلاقة بين الإنسان والبيئة. معظم هذه الأبحاث تحمل في طياتها تأثيرات أيديولوجية، سواء كانت دينية، أو ثقافية، أو أخلاقية، مما يصعب الوصول إلى نتائج موضوعية خالية تماما من الانحياز. ويضيف: إن فرضية الحيادية الأخلاقية في البحث العلمي ليست إلا وهما لا يمكن الوصول له. هذه الحيادية المزعومة كانت سببا في تدهور أو سوء إدارة الموارد؛ لأنها تخفي العوامل التي تسيطر عليها هذه الأيديولوجيا. فمثلا قد تدعم الأبحاث العلمية والدراسات الممارسات التي تؤدي إلى تدمير الموائل الطبيعية أو استنزاف الموارد لأسباب اقتصادية أو الميل لخدمة حماس صانعي القرار.

وفي هذا الإطار، يقترح هارفي مبدأ «توازن الموارد» كوسيلة للتحكم في العلاقة بين السكان والموارد. ويقوم هذا المبدأ على مرحلتين أساسيتين، الأولى تتعلق بالجانب الاقتصادي، حيث ينظر في حجم الاستهلاك والإنتاج واحتياجات الإنسان، والثانية تخص النظام البيئي، من حيث كمية الموارد المتوافرة وقدرتها على استيعاب الطلب دون أن تتعرض للتلف أو التدهور. ويؤكد أن تحقيق التوازن بين الاستهلاك والموارد هو السبيل الأمثل للحفاظ على مستقبل المدن دون الوصول إلى مرحلة الانهيار أو النقص الحاد. يبرز هارفي أهمية وعي الإنسان بضرورة التوازن بين استغلال الموارد وحمايتها، حيث إن عدم تحقيق ذلك يؤدي إلى التدهور البيئي، والصراعات الإقليمية والتوترات السياسية، وتهديد مستقبل الأجيال القادمة.

والسؤال الناجز هو كيف نستعد لبناء مستقبل المدن؟ من المهم أن تجمع خطط التنمية العمرانية بين الأدوات التكنولوجية والبعد الاجتماعي والبعد الاقتصادي والبيئي، بحيث تحافظ على التوازن بين التطور المادي وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتسهم في توفير بيئة تتيح مشاركة المجتمع في اتخاذ القرارات. كما أن تحديث التشريعات العمرانية أمر في غاية الأهمية لتشجيع الابتكار وتوفير بيئة تشريعية تدعم مشاريع الاستدامة والعدالة الاجتماعية والتكامل. علاوة على ذلك، يجب أن تركز أبحاث مدن المستقبل على مفاهيم الشمولية والمرونة، مع الحرص على جعل المجتمعات قادرة على التكيف مع التغيرات السريعة، سواء كانت اقتصادية أو بيئية، وإعادة صياغة العلاقات بين الأفراد، والمؤسسات، والبيئة، من خلال نظم اجتماعية وسياسية مرنة ومستدامة.

ختاما، نحن بحاجة إلى الاستعداد للمستقبل من خلال تعزيز الوعي وإشراك المجتمع المحلي في عمليات التخطيط، وتبني السياسات التي تدعم الاستدامة مع مواكبة التطورات العلمية والتكنولوجية لتكون مدن المستقبل أماكن آمنة، ومستدامة، ومتنوعة تلبي احتياجات جميع أفراد المجتمع وتواكب متغيرات العصر.