الرأي

بالتسامح نحيا

عبدالله فدعق


اليوم، السادس عشر من نوفمبر، هو اليوم المخصص عالميا للاحتفاء باليوم الدولي للتسامح، وهو يوم يفترض أن نتوقف فيه قليلا أمام أنفسنا، لا مجرد أن نرفع الشعارات ونكرر العبارات.

في زمن تتسارع فيه الأحكام، ويضيق فيه الصدر بالاختلاف، يصبح الحديث عن التسامح أكثر من مجرد دعوة أخلاقية، بل تذكير بإنسانيتنا المشتركة، وأن العيش معا لا يتحقق إلا بفهم أن كل إنسان يحمل قصة تستحق الفهم قبل الحكم، وأن التسامح في جوهره ليس مناسبة سنوية، بل وعي يومي يعيد للإنسان توازنه مع ذاته ومع الآخرين، ومن هنا يأتي تأملي ليعيد النظر في التسامح لا كشعار يرفع، بل كحالة إنسانية عميقة تشمل الداخل والخارج، والقريب والبعيد، ولتكشف أن هذه القيمة ليست ترفا فكريا، بل ضرورة لكرامة الإنسان واستمرار الحياة.

التسامح، في لحظات الخذلان والغضب، يفوق طاقة الإنسان العادي؛ ورغم ذلك يبقى هو الفعل الذي يعيد الإنسان إلى جوهر إنسانيته، وإلى المساحة الهادئة التي يتذكر فيها أنه يحمل ضعفا يشبه ضعف من حوله؛ فنحن لا نحيا في عزلة، وحياتنا شبكة من التفاعلات؛ نسيء الفهم ويساء فهمنا، وهذا التناقض يصنع التجربة الإنسانية كلها، ولو توقفنا عند كل جرح وسجلنا كل عثرة لضاقت الحياة بأخطائنا جميعا؛ فالتسامح ليس ضعفا ولا تنازلا، بل وعي بحدودنا كبشر، فكما نحتاج من يفهمنا حين نخطئ، يحتاج الآخرون من يفهمهم حين يزلون، وهذا الوعي كفيل بتحويل التسامح من فعل أخلاقي إلى رؤية إنسانية عميقة، ملخصها أن ندرك أننا جميعا نحمل القابلية نفسها للخطأ، وأننا نتشابه أكثر مما نختلف.

إسلاميا، بعض الفقهاء والمفكرين يفضلون استخدام مصطلح «السماحة» بدلا من «التسامح»، لأن السماحة في أصلها فضيلة مطلقة تنبع من ثبات القيم، لا من مساومة أو تنازل، وتعني الإقرار بالتنوع والاختلاف، وقد جسدها النبي صلى الله عليه وسلم عمليا في وثيقة المدينة التي عقدها مع اليهود، وأقر لهم حقوقهم الإنسانية والمدنية؛ وفي سياق آخر يجب التمييز بين التسامح والعفو؛ فالعفو موقف محدد يمنح بعد إساءة بعينها، أما التسامح فهو وعي متجدد يتجاوز الموقف إلى النظر في طبيعة الإنسان ذاته، والعفو فعل رحمة، والتسامح فعل فهم، والرحمة لا تثمر إلا إذا سبقها فهم صادق؛ فقد يعفو الإنسان دون أن يتسامح، فيما التسامح يحرر الداخل قبل الخارج؛ كما ينبغي التمييز بين التسامح والتعايش، فالتعايش قد يتحقق بالتنظيم والقبول الظاهري، بينما التسامح يتطلب حضورا أخلاقيا ووعيا حقيقيا بالآخر؛ ففي التعايش نقبل بوجود المختلف، أما في التسامح فنراه إنسانا يشبهنا في ضعفه وأحلامه وإن اختلف عنا في فكره ومظهره، وإذا غاب التسامح تحول التعايش إلى هدنة باردة.

أختم بأن التسامح لا يختبر فقط في الخارج، بل يبدأ من الداخل؛ بأن يسامح الإنسان نفسه على ما مضى في لحظة ضعف، ومن يعجز عن مسامحة ذاته، لا يمكنه التصالح مع غيره، ومن لا يتسع صدره لضعفه، لن يتسع لضعف غيره، وسيقع أسيرا ضد المختلف عنه في فكر أو ثقافة أو مذهب وغير ذلك، لأن قلبه لم ير التنوع مظهرا من مظاهر الوجود، بل رآه تهديدا للحياة؛ وحين نفهم هذا، سندرك أن التسامح ضرورة إنسانية تحفظ توازن الفرد والمجتمع، وأنه اعتراف بهشاشتنا المشتركة، وأننا نسير في الطريق ذاته، نبحث عمن يفهمنا، وعمن يدرك أن العالم لا يحتاج إلى شعارات إضافية، بل إلى ضمائر متسامحة ترى في الاختلاف فرصة للتكامل، وفي التنوع جمالا لا تهديدا.