أخبار للموقع

حسين الغرّاش… يدٌ تُعيد للطين ذاكرته داخل فعاليات "بنان"

بين الأصوات المتداخلة وضجيج الخطوات الذي ينساب بين الممرات الرحبة، كان المشهد داخل فعاليات الأسبوع السعودي الدولي للحرف اليدوية 'بنان' يبدو أقرب إلى ساحة نابضة بالمهارات الإنسانية التي عاشت قرونًا ولم تفقد بريقها. وبين تنوع الحرف القادمة من أكثر من أربعين دولة، لفت انتباه الزوار ركن صغير يجلس فيه رجل لا يحتاج إلى استعراض كي يجذب أحدًا؛ مجرد وجوده أمام عجلة الفخار كان كافيًا لخلق دائرة من الفضول حوله، كأن الطين الذي بين يديه يحمل قصة تنتظر من يرويها.

هناك، وسط ازدحام الأجنحة، كان الحرفي القطيفي حسين الغرّاش يعمل كمن ينساب مع الزمن. يجلس بثبات أمام العجلة، يبلل يديه بالماء، ثم يضع كتلة الطين في المنتصف. بمجرد دوران العجلة، يتغيّر الهواء حوله؛ يصبح أكثر هدوءًا، ويشعر من يراقبه بأن حركة يديه تحكم المكان كله. كان حسين يصنع 'قُلّة' حين توقفنا بجواره، وعلى الرغم من وجود عشرات الأشخاص الذين يقفون على بعد خطوات قليلة، إلا أن تركيزه لم يتزحزح. رفع رأسه للحظة، بابتسامة خفيفة، ثم قال جملة قصيرة تكفي لشرح كل شيء: 'هذه الحرفة وراثة من الجد والأخوال... ما زلنا محافظين عليها'.

لم يكن بحاجة لأن يطيل. أصابعه قالت كل ما يحتاج أن يُقال. كانت تتحرك بثقة تتجاوز الحرفة نفسها، وكأنها تستعيد ذاكرة طويلة امتدت من طفولته حتى يومه. في القطيف، حيث نشأ وتعلّم، كان الفخار جزءًا من حياة الأسرة، ينتقل عبر الأجيال بلا انقطاع. ولهذا بدا طبيعيًا أن يواصل حسين ما بدأه أسلافه، وأن يحوّل تلك المهنة القديمة إلى حضور حي يعكس صبرًا طويلًا واحترافًا عميقًا.

بينما يستمر في حديثه البسيط، كان الطين يستجيب لكل ضغطة من يده. يضغط بإبهامه قليلًا فيضيق العنق، ثم يرفع راحته فيتسع البطن، قبل أن يمنح القطعة انحناءً خفيفًا يشبه توقيعًا شخصيًا لا يتكرر. كان يفعل ذلك بلا تردد، كأن الطين يعرف إلى أين يجب أن يذهب، وكأن العجلة تتبع إيقاعًا محفوظًا لا يحتاج إلى تفكير. وفي أقل من دقائق، بدأت ملامح 'القُلّة' تتشكل بوضوح، حتى أصبحت قطعة شبه مكتملة أمام الأنظار.

أحد الزوار سأله بهدوء عن عدد القطع التي يستطيع إنتاجها يوميًا، فابتسم حسين دون أن يرفع يده عن الطين، وقال: 'بين 40 و50 قطعة، حسب الوقت... المهم أن الشغل ما يوقف'. وعندما أنهى جملته، كان قد انتهى تلقائيًا من تشكيل القطعة التي بدأها، رفعها من العجلة بخفة، ووضعها إلى جانبه، كأن اكتمالها نتيجة طبيعية للحوار.

هذا النوع من المهارة اليومية لا يأتي من التعليم النظري، بل من علاقة طويلة بين الإنسان والطين، علاقة تشكلت عبر أجيال في مناطق مثل القطيف والأحساء، حيث ارتبطت صناعة الفخار بالحياة اليومية للناس. في الماضي، كانت الأواني الفخارية جزءًا من المنزل: تُستخدم لحفظ الماء، وتبريد المشروبات، وطبخ الأطعمة، وتخزين الحبوب. ومع مرور الزمن تغيّرت الوظائف، لكن الحرفة بقيت، وتحولت من ضرورة منزلية إلى قيمة جمالية وثقافية، ما زال الحرفيون يعتنون بها ويطوّرونها.

ويعتبر الفخار السعودي اليوم امتدادًا لبيئة رطبة بالطين ومليئة بتفاصيل الحياة القديمة. ما يميز هذه الصناعة ليس الشكل فقط، بل البصمة المحلية التي تظهر في انحناءات القطعة، وطريقة الحرق، واللون النهائي الناتج عن نوعية الطين الشرقي المعروف بجودته. كثير من الحرفيين يعتمدون على الطين المحلي، ويضيفون إليه تقنيات حديثة في التشكيل والتصميم، لكن الروح بقيت كما هي: علاقة صبر، ومعرفة، وإحساس يمر من يد إلى يد.

ولعل وجود حسين الغرّاش في 'بنان' يجسد هذا الامتداد بطريقة حيّة. فهو ليس مجرد عارض، بل شاهد على ذاكرة منطقة كاملة، وعلى مهنة قاومت الاندثار لأنها ترتبط بالطبيعة قبل الصناعة. حركته الهادئة، وإصراره على تقديم عمله كما يفعله يوميًا في القطيف، يجعلان من ركنه مساحة صغيرة تعيد تعريف الحرفة نفسها؛ فهي ليست مجرد منتج نهائي، بل عملية طويلة تحمل داخلها تاريخًا وبيئة وثقافة وهوية.

وفي محيط هذا المشهد، تتواصل فعاليات الأسبوع السعودي الدولي للحرف اليدوية 'بنان' في نسخته الثالثة، التي تُقام برعاية صاحب السمو الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان، وبمشاركة أكثر من 400 حرفي وحرفية من أكثر من 40 دولة حول العالم، وبحضور جمهورية الصين الشعبية ضيف شرف هذه النسخة. ويأتي تنظيم الحدث بالتزامن مع 'عام الحرف اليدوية 2025'، بهدف دعم الحرفيين وتمكينهم، وتعزيز حضور الحرف التقليدية كجزء أصيل من الهوية الثقافية للمملكة، وتوفير مساحة للتبادل الإبداعي بين الحرفيين المحليين والدوليين، بما يسهم في إبراز جماليات الموروث الحرفي السعودي وتنوعه.