المدن الجريحة على ضفاف بحار الدم
الخميس / 22 / جمادى الأولى / 1447 هـ - 11:29 - الخميس 13 نوفمبر 2025 11:29
دمشق لا تزال تنزف. جروحها كثيرة. داوت بعضا منها. لكن الأدهى أن الثارات حاضرة بين اخوة الوطن. كل شيء يمكن علاجه بحوار أو بصفقة أو بمال؛ إلا الثأر. الدم لا يعالج إلا بالدم. يحاول الرئيس أحمد الشرع مواجهة معضلات بلاده، الموروثة عن النظام الأسدي البائد. البعض منها يمكن تطويعه. لكن الآخر ربما بحاجة إلى سنوات مالم تكن عقود. كسر الرجل ومن معه في فريق عمل سوريا الجديدة؛ كثيرا من الأنماط المأخوذة عن دولة كانت إلى وقت قريب، أشبه بمزرعة، حولتها أسرة آل الأسد لمصالحها الشخصية، والمقربين منها. انفتح على محيطه القريب، بعد أن دخل قصر الشعب بأيام. زار السعودية، وحصل منها على كثير من المفاتيح. ومنحته الرياض غطاء سياسي واقتصادي واضح. والهدف ليس هو. الهدف سوريا الدولة. والشعب.مر الوقت. أيقنت دوائر القرار في العالم الغربي، أن وجود الشرع لن يكن أسوأ من بشار الأسد. وأن لديه ما يمكن أن يقدمه لدولة كسوريا، لها تأثيرها على المنطقة. لف على عواصم بعد الرياض. أنقرة وباريس. وموسكو للقاء القيصر، القابض بيده على جمرة حرمانه الإطلالة على البحر الأبيض المتوسط، وفقدانه بسبب دعم الأسد النفوذ على الأراضي السورية.قبل أيام دخل الشرع ومن معه البيت الأبيض. التقوا بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب وجها لوجه، وفي عقر داره. هو رجل لا يملك الوقت للمجاملة. زر الحرب والهجمات الجوية التي يمكن أن تقوم بها أعتى الطائرات في سلاح الجو الأمريكي على الطاولة. وجهاز مخاطبة العالم في جيبه. هو يجيد التعامل مع الإعلام.خرجت الصور. اللقاء بدا حميما. وانشغل بعض السذج العرب، بدخول الرئيس من الباب الخلفي للبيت الأبيض، وعدم وجود العلم السوري، على حساب تجاهل المضامين. في الحقيقة إنه أمر مثير للسخرية. من يفهم أدنى أسس البروتوكولات الدبلوماسية، يدرك أن الزيارة كانت خاصة وليست زيارة دولة. لذلك طبقا لقوانين وبروتوكولات البيض الأبيض، يدخل الزائر من الباب الخلفي. ولا يوضع علم الدولة. بعيدا عن ذلك.. السؤال؛ ما مكتسبات اللقاء؟أولا: أخرج الشرع سوريا الدولة من الصورة النمطية التي كانت مأخوذة عنها على مدى عقود مضت. وهنا يجب ربط ذلك بأنه الرئيس السوري الأول الذي يدخل المكتب البيضاوي. لماذا؟ لأن من سبقه من رؤساء منذ استقلال سوريا، يرون الولايات المتحدة الأمريكية راعية لإسرائيل، وهذا يتعارض مع مبادئهم القومية، الأمر الذي تسبب بتوترات سياسية وعقائدية استمرت لعشرات السنين الماضية، بين دمشق وواشنطن.ثاني المكاسب: الشرعية الدولية للنظام الجديد في سوريا. فوجود الشرع في العاصمة الأمريكية، يعني اعترافا دوليا ضمنيا بالتحولات التي شهدتها البلاد، بعد مرحلة الأسد، وقبولا للشرع كرئيس للبلاد.ثالثا: اكتساب الثقة العالمية، ما يفتح مزيد من التواصل مع العواصم، لا سيما تلك التي كانت مترددة في مد اليد للحكومة السورية الجديدة. رابعا: جلب مزيد من الاستثمارات لسوريا، خصوصا التي قد تقوم على مشاريع إعادة الإعمار؛ ما يعني رفع رتم الثقة في الدولة السورية، الأمر الذي سينعكس على المؤشرات الاقتصادية، وتوفير فرص عمل للسوريين، التي ستؤدي بدون شك لتعميم حالة الأمن والسلام، ناهيك عن دعم الاقتصاد السوري.هل انتهى الحال عند هذا الحد؟ لا. فأحد أهم المكاسب التي تحققت للطرفين 'السوري والأمريكي'، نزع الرداء الروسي عن سوريا، وهي – أي موسكو – عرف أنها كانت فيما مضى قائدة المعسكر الذي انزوت بإطاره دمشق منذ خمسينيات القرن الماضي. هنا غيرت سوريا منهجيتها السياسية عبر الانفتاح على العالم الغربي بدل الارتهان للحليف الواحد. وحققت واشنطن اختراقا تجاه روسيا غريمتها التقليدية، يقوم على الظفر بحليفها التاريخي.أعتقد أن التقارب الذي أسست له تلك الزيارة التاريخية لواشنطن من قبل الشرع ورفاقه، سيسهم في حلحلة كثير من الملفات التي تؤرق دمشق، كملف القوات الكردية، والاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، والأزمة الدرزية في السويداء. فمن غير الطبيعي أن تقف إدارة ترامب مكتوفة الأيدي مع حليفها الجديد، الذي أقنعته بمواجهة ما تبقى من تنظيم الدولة على الأراضي السورية، وذا برأيي الاختبار الحقيقي الذي ليس لحكومة الشرع خيارا إلا النجاح به، باعتباره سيكون الثمن لدخول أمريكي، يقوم على دعم مشاريع سوريا الجديدة، وعلى رأسها انخراط السلاح الكردي تحت طائلة مسؤولية الجيش، ومنع إسرائيل من التطاول على السيادة السورية مجددا.برأيي ثمة ما يجب الإشارة له. أن نجاح الدولة في سوريا في لم شمل السوريين، وتحقيق الوحدة الوطنية والسلام على أرض مفككة، سيزيد من ثقة الدول التي دعمت حكومة الشرع وتبنتها، وعلى رأسها السعودية، التي منحته فرصة تاريخية، حين تمكنت من إقناع الغرب والإدارة الأمريكية تحديدا، بضرورة منحه الفرصة لإنتشال بلاده من حالة التشرذم والتفكك.إن الأصوات العربية الناعقة بتكريس حالة التشكيك بالحكومة السورية الحديثه، لتعبر عن حالة إحباط سياسي، تعيشه داخل دولها، التي تعجز عن مواجهة توفير رغيف الخبز، والوقود، والكهرباء. حفلات الردح لم تتوقف. ربطن الراقصات خصورهن. ضباط الإيقاع حاضرين. استمرت سهراتهم. انشغلوا بالشرع. بينما يجلس مع أقوى رجل على وجه الأرض. مهمتهم الهز. هذا دورهم. ودوره؛ إنقاذ المدن الجريحة.. على ضفاف بحار الدم.