رفض الحقيقة وصراع الواقع
الخميس / 22 / جمادى الأولى / 1447 هـ - 05:32 - الخميس 13 نوفمبر 2025 05:32
الفرد الذي يقضي حياته من قرض لقرض يرفض واقع أنه ذو دخل محدود، والمتقاعد الذي يبدأ رحلة التقاعد بالزواج من فتاة في عمر أبنائه يرفض فكرة أنه تقدم في العمر، واللاعب الذي يدعي أنه محارب ينكر واقع أن مهارته أقل من أن تجعله لاعبا أساسيا. هذه الصور اليومية تكشف لنا جانبا عميقا من معاناة الناس في مواجهة ذواتهم والواقع من حولهم. إن رفض ما هو قائم والإنكار المستمر للحقيقة لم يعد مجرد سلوك فردي، بل أصبح ظاهرة واسعة تضعف جودة الحياة وتزيد من التوتر النفسي والاجتماعي.حين يعيش الإنسان في دائرة رفض الواقع، فإنه ينشغل بالمقارنات المستمرة بين ما يتمنى وما يحدث فعليا. هذه المقارنات تزرع الإحباط وتستنزف الطاقة، فلا يعود قادرا على الاستمتاع بما يملك، مهما كان كثيرا. ومع تراكم هذا النمط من التفكير على مستوى الأفراد، تتأثر البيئة الاجتماعية بأكملها، فيسود القلق ويزداد الضغط. والمجتمع الذي لا يتقبل التغيرات العالمية من حوله ولا يواكبها، يواجه بدوره مأزقا مشابها؛ إذ يدخل في حالة مقاومة عقيمة تعرقل تقدمه وتعمق الفجوة بينه وبين غيره.التقبل هنا لا يعني الاستسلام ولا التخلي عن الطموح، بل هو وعي بالواقع كما هو، مع السعي لإدارته بمرونة. من يتقبل فقده أو إخفاقه يتحول إلى باحث عن حلول واقعية، بينما من ينكر يظل أسيرا للخيالات، يستهلك طاقته في محاربة ما لا يمكن تغييره. التقبل يحرر الإنسان من ثقل الرفض المستمر، ويمنحه المرونة التي تجعل الأزمات قابلة للاحتواء، والعثرات فرصا للنمو والتعلم.إن نتائج غياب التقبل واضحة: قلق، اكتئاب، وشعور دائم بالعجز. أما نتائجه الإيجابية فتظهر بجلاء في من يتعامل مع حياته بوعي، فيصبح أكثر انسجاما مع نفسه، وأكثر قدرة على بناء علاقات مستقرة، ومشاركة الآخرين بروح منفتحة. ففي بيئة قائمة على التقبّل، يسهل التعاون، وتقوى الروابط، ويتحول الاضطراب إلى استقرار نسبي يمنح الجميع مساحة للعيش المشترك.وفي الختام، فإن التقبل ليس ترفا نفسيا ولا موقفا عابرا، بل مهارة حياتية محورية تحدد مسار الإنسان والمجتمع معا. نحن لا نملك أن نغير كل ما يحدث لنا، لكننا نملك أن نختار كيف نتعامل معه. وبين إنكار يعطل المسيرة ويثقل الروح، وتقبل واع يمنح السلام الداخلي ويصنع التوازن، تتحدد جودة حياتنا.والقرار في النهاية بيد كل فرد: أن يعيش أسيرا لرفضه، أو أن يجدد وعيه ويصالح نفسه مع واقعه.