الرأي

ثقافة المقارنة.. كيف أصبحنا غرباء عن حياتنا الحقيقية

نيفين عباس
نستيقظ على عجل، نضحك على عجل، حتى الحزن لم يعد يجد وقته الكامل لنعيشه، تركض الأيام ونظن أننا نكسب العمر بينما نحن نخسره، أصبحت الحياة سباقا بلا خط نهاية، وكلما ظننا أننا اقتربنا ابتعدنا أكثر، في زمن أصبحت فيه الشاشة نافذتنا إلى العالم، تحولت المقارنة إلى عادة يومية خفية تتسلل إلى وعينا من دون استئذان، نفتح هواتفنا في الصباح نرى وجوها تبتسم، أجسادا مثالية، سفرا لا ينقطع، ونجاحات تتوالى كالمطر، عندها وبصمت لا يسمع يبدأ داخلنا صوت يهمس «لماذا لست مثلهم؟»نعيش متصلين بالعالم منفصلين عن أنفسنا، نعرف أخبار الجميع لكننا نجهل ما يجري داخلنا، نملك كل وسائل الراحة لكننا لا نراها ولا نجد راحة، نخطط لكل شيء إلا كيف نعيش، فلم تعد المقارنة مجرد سلوك عابر، بل أصبحت ثقافة سامة كاملة تتغذى على صور مصقولة ومشاهد منتقاة بعناية، الكل يخفي ظلاله، ويظهر من حياته ما يرضي العين ويثير الغبطة، ومع استمرار المقارنة يغدو الإنسان حبيس مشهد متكرر من الزيف الجميل، يطارد صورة متخيلة عن الكمال، وينسى تفاصيله التي تميزه عن غيره، نعيش في زمن لم يعد يبحث فيه الناس عن السعادة بقدر ما يبحثون فيه عن شكل جميل لها، نضحك للكاميرا ونحن نخفي أرواحنا المتعبة، نعلق صورنا على الجدران وننسى أن نعلق قلوبنا على المعنى.وسائل التواصل الاجتماعي لم تخلق الكذب، لكنها جعلته أكثر أناقة وإقناعا، فالسعادة أصبحت تقاس بعدد «الإعجابات»، أصبحنا نقارن وجعنا بما لا نراه من وجع الآخرين، وبدل أن تكون الشاشة وسيلة للتقارب، غدت جدارا زجاجيا نطل منه على حياة مزيفة، فنشعر أننا متأخرون دائما عن الركب، ناقصون أمام بريق لا يخفت، لكن الحقيقة أبسط من هذا الوهم الكبير، فلا أحد يعيش حياة كاملة، فخلف كل صورة هناك تعب لا يرى، وخلف كل ابتسامة هناك قصة لم تروَ.المقارنة تعمينا عن جمال ما نملك، تطفئ الشعور بالامتنان داخل قلوبنا، تزرع شعورا دائما بالنقص، إنها تسرقنا من اللحظة، تجعلنا غرباء عن أنفسنا وعن الحياة التي بين أيدينا، إن التحرر من ثقافة المقارنة لا يعني الانعزال عن العالم، بل يعني استعادة البصيرة، أن نتذكر أن لكل إنسان رحلته الخاصة، ومعناه المختلف، وأن قيمتنا الحقيقية لا تقاس بما نظهره للعالم، بل بما نحمله في داخلنا من صدق وسلام.حين نتوقف عن النظر إلى الآخرين كمرايا، سنرى أنفسنا بوضوح للمرة الأولى، حين نكتفي بما لدينا، سنكتشف أن النقص لم يكن في حياتنا قط، بل في نظرتنا إليها، فالسعادة لا تلتقط بعدسة، بل تصنع في الداخل حيث لا ضوء ولا شهود.NevenAbbass@