الرأي

جرائم إسرائيل.. والتلبس بالديمقراطية... والقداسة!

علي عبدالله باوزير
استوقفني مشهد عجيب ومقزز، يظهر فيه عسكري إسرائيلي أمام أحد مباني غزة السكنية قبل أن يقوم بتفجيره، وهو يقول «أهدي هذا التفجير لابنتي العزيزة»!وما ذلك المشهد سوى أحد مشاهد عديدة رأيناها لجنود إسرائيليين يستعرضون بفخر واعتزاز ما يرتكبونه من جرائم في غزة: من هدم المساكن وتدمير المدارس والمستشفيات حتى قتل الأطفال!... والمواطنون الإسرائيليون لا يكتفون بتأييد هذه الجرائم، بل يساهمون في تفاقم المجاعة القاتلة في غزة بمنع دخول المساعدات الضئيلة التي تسمح بها إسرائيل، وقد أنشأ بعض الإسرائيليين منصات على حدود غزة للتفرج على ما يجري من مذبحة للفلسطينيين!وما ذلك سوى دليل على مجتمع مريض أخلاقيا ونفسيا.. يستمتع برؤية مذبحة لأطفال أبرياء.وأخيرا، بعد أكثر من سنتين من المذابح المستمرة تم عقد «هدنة».. وما أن مرت أيام قليلة على تلك الهدنة إلا وعادت إسرائيل إلى ارتكاب المذابح، وتفاخر نتانياهو أن إسرائيل ألقت على غزة ما يزيد عن 150 طنا من القنابل خلال بضعة أيام على شعب أعزل، أثناء ما يفترض أنه «هدنة»... تخرقها إسرائيل بصفة مستمرة!!وليس ذلك مستغربا من إسرائيل، لكن ما هو مستغرب هو مدى المساعدة التي تتلقاها إسرائيل في ارتكاب المذبحة، كما كشفت فرانشيسكا ألبانيزي Francesca. Albanese، المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وذلك في تقريرها الأخير الذي قدمته في مدينة كيب تاون بعد أن منعت من دخول الولايات المتحدة، وهو تقرير يحدد بالاسم 63 دولة قدمت المساعدة لإسرائيل في ارتكاب المذبحة، بالإضافة إلى العديد من الجهات والشركات، جميعها متهمة بالتواطؤ في جريمة «الإبادة الجماعية» في غزة.وفوق ذلك، بينما تقوم المظاهرات حول العالم تضامنا مع غزة، نرى شخصيات لها صفة رسمية في دول «ديمقراطية» تؤيد ما ترتكبه إسرائيل من جرائم بشعة.فلا بد من التساؤل: أي ديمقراطيات هذه التي تؤيد أبشع الجرائم،وأي ديمقراطيات هذه التي تساند مجرمي حرب مطلوبين للقبض عليهم؟وكيف يعتبر هذا الكيان الخارج على النظام الدولي حليفا للغرب الديمقراطي؟هل هي مسألة دينية؟ أم أيدولوجيا سياسية؟ أم مصلحة استراتيجية؟لا شك أن الصهيونية تتلبس بالدين منذ نشأتها، وأن التلبس بالدين واضح في كلام نتانياهو.لكن، لو كانت المسألة «دينية» فإن الوصايا العشر تقول: لا تقتل،والوصايا العشر تقول: لا تسرق!والوصايا العشر هي أهم المبادئ الأخلاقية والتعبدية في التوراة.. وقيام دولة إسرائيل أساسه قتل الفلسطينيين وسرقة أرضهم.وليس سرا أن فكرة قيام دولة إسرائيل ذاتها هي نقطة خلاف في داخل الديانة اليهودية، وأنها فكرة تلقى معارضة واضحة في أوساط يهودية متدينة.والادعاء بأن الإسرائيليين الحاليين هم أحفاد «بني إسرائيل» الذين عادوا إلى أرضهم في فلسطين هو ادعاء تدحضه دراسات الحمض النووي DNA studies التي تثبت أن الإسرائيليين الحاليين ليسوا من نسل السكان الأصليين، بل هم أغراب عن المنطقة، أي أن إسرائيل لا أكثر من مشروع استعمار استيطاني... وفي المقابل: تمنع إسرائيل أصحاب الأرض الحقيقيين من العودة إليها!أما لو كانت القضية مسألة حماية اليهود وتعويضهم عن المحرقة، أو أيدولوجيا سياسية، فالإجابة هي أن المعيشة في دولة إسرائيل لا توفر الأمان لليهود، بل هي أخطر مكان لمعيشة اليهود، وأن ما ترتكبه إسرائيل من جرائم يزيد من العداوة لليهود عالميا، ويعرضهم للمخاطر.وإذا كانت المسألة «تعويض» اليهود عن المحرقة، فلماذا يدفع الفلسطينيون ثمن جريمة أوروبية؟أما عن ادعاء إسرائيل أنها دولة «ديمقراطية»، بينما هي لا تعطي الفلسطينيين أبسط حقوقهم الديمقراطية، ولا تعترف بهم كمواطنين، ولا توفر طريقة للتعايش modus vivendi ما بين اليهود والفلسطينيين، بل تقوم بعزل الفلسطينيين - أصحاب الأرض - في مناطق بائسة وأقامت جدارا فاصلا ما بينهم وبين اليهود، وهو جدار أعظم وأكثر طولا من جدار برلين الذي كان قائما ما بين ألمانيا الشرقية والغربية، بينما تمارس إسرائيل أبشع صنوف البطش والتمييز العنصري ضد الفلسطينيين.فأي ديمقراطية هذه؟ وكيف تؤيد دول تدعي الديمقراطية وحقوق الإنسان هذه الأيدولوجيا الصهيونية؟أما إذا كان السبب وراء دعم إسرائيل هو أنها تمثل مصلحة استراتيجية للغرب، فلا شك أن هناك عوامل تاريخية أدت إلى إنشاء دولة إسرائيل ودعمها من القوى الاستعمارية، بحكم موقعها ودورها الاستخباراتي واستخدامها لاحتواء القوى الإقليمية، كما أن البعض كان يعتبرها «حاملة طائرات لا يمكن إغراقها» في مواجهة الاتحاد السوفيتي، وذلك أثناء فترة الحرب الباردة ما بين الشرق والغرب، إلخ.لكن عالم اليوم ليس هو عالم الأمس.. وشعوب الغرب لم تعد تتقبل السياسات العنصرية المكشوفة التي تمارسها إسرائيل.. والفائدة التي يمكن أن تمثلها إسرائيل للغرب أصبحت موضع شك على أفضل الحالات. وأي فائدة رآها البعض في إسرائيل في الماضي لا تتفق مع العبء الاستراتيجي والاقتصادي والسياسي الذي تمثله إسرائيل على من يدعمونها في عالم اليوم.فالدعم الغربي الحالي لإسرائيل لا يبدو أن له علاقة بالدين، ولا بالأيدولوجيا السياسية، ولا بالمصلحة الاستراتيجية، وإنما له علاقة واضحة بفساد ما يسمى بـ(النموذج الديمقراطي الغربي) Western democratic model الذي يفترض أن تكون الانتخابات النزيهة وحقوق الإنسان والمساواة بين المواطنين من أهم مقوماته، لكنه - من الناحية الواقعية - يعمل في خدمة «طبقة المانحين» donor class من الشركات العملاقة وكبار الأثرياء.. وهذه الطبقة لها ميول صهيونية واضحة، وهي مستعدة أن تنفق ببذخ على المرشحين في انتخابات السلطة التنفيذية، وأن توفر الغطاء الإعلامي لهم.وهذا الدعم: ماديا وإعلاميا، ما هو سوى رشوة قانونية legal bribe للمرشحين الذين يتوجب عليهم خدمة مصالح وأهداف الداعمين عند الوصول إلى السلطة، وذلك في دول «ديمقراطية» يفترض فيها أن من يفوز في انتخابات السلطة التنفيذية يعمل في خدمة الشعب كله، وليس في خدمة فئة ضيقة من أصحاب المصالح الخاصة.والشيء ذاته بالنسبة للسلطة التشريعية: حيث نرى في الدول الديمقراطية ذاتها جماعات المصالح الخاصة special interest groups وهي تتحكم بوضوح في النواب المنتخبين شعبيا، ومنهم الأغلبية الساحقة من نواب الكونغرس ومجلس الشيوخ الأمريكي الذين دعمتهم جماعات تابعة لإسرائيل قامت بتمويل حملاتهم الانتخابية ووفرت لهم الغطاء الإعلامي المؤثر في جماهير الناخبين، وبعد انتخاب أولئك النواب يتحكم فيهم ممثلو المصالح الخاصة Lobbyists ويعمل النواب في خدمة من دعموهم.وبذلك يتم تجاوز أهم مبادئ «النموذج الديمقراطي الغربي»، ويصبح ما يقال عن «الديمقراطية اللبرالية» liberal democracy مجرد كلام نظري، أما على أرض الواقع تتحقق سيطرة المصالح الخاصة على السلطتين التشريعية والتنفيذية معا، ويتم تسخيرهما في خدمة أصحاب المصالح الخاصة، بدلا من أن تكون هاتان السلطتان في خدمة الشعب، وكل ذلك في دول تتفاخر بديمقراطيتها!!فالنظام الديمقراطي السائد يهتم بالوصول إلى السلطة عن طريق الانتخابات، لكنه في الوقت ذاته يتيح التلاعب بها: لا عن طريق تزوير نتائج الانتخابات وإنما عن طريق الصفقات الخفية ما بين المرشحين candidates والقوى المؤثرة التي تتحكم في تمويل الحملات الانتخابية campaign financing، والإعلام الذي يتلاعب بوعي الناخبين في المجتمعات الديمقراطية.وسيطرة المصالح الخاصة على مجتمعات غربية عن طريق التمويل والإعلام - وبالتالي الضغوط السياسية والقانونية على أي تيار معارض - قد امتدت إلى المؤسسات الدينية المسيحية، كما سبق اختراق المؤسسة الدينية اليهودية. حيث اخترقت الصهيونية الخطاب الديني المسيحي، فتم ترويج فكرة أن كل إنسان مسيحي عليه «واجب شرعي» نحو دعم دولة إسرائيل! وغيرها من أفكار شاذة يتم ترويجها تحت غطاء شرعي، ما أعطي «قداسة زائفة» لما تروجه إسرائيل من أفكار شاذة وعنصرية، ولما ترتكبه من جرائم شنعاء.والسبب الأول والأساس الذي مكن اللوبي الصهيوني من هذا النفوذ ومكن إسرائيل من ارتكاب هذه الجرائم هو نقص الوعي لدى عامة الناس في الغرب.. لكن اللعبة أصبحت «على المكشوف»: فلم يعد سرا أن اللوبي الصهيوني كان - ولا يزال - يدفع بالولايات المتحدة نحو حروب مدمرة، وأنه يغرقها في الديون، ويروج لقرارات استراتيجية خطرة وفي غير المصلحة الأمريكية.ولم يعد سرا أن إسرائيل دولة نووية لا تلتزم بأي قيود أخلاقية أو قانونية على استخدام القوة المفرطة، وأنها ترتكب جرائم بشعة، وتقف وراء جماعات إرهابية في منطقتنا وخارجها، إلخ.فإسرائيل لم تعد خطرا على العرب وحدهم، بل أصبحت خطرا عالميا، كما أشرت في مقال سابق.واللوبي الصهيوني أصبح يتفاخر علنا بهيمنته على الحكومة الأمريكية.. وهناك وعي متزايد أن إسرائيل تمثل خطرا على أمريكا... وصراع ما بين اللوبي الصهيوني والشباب الأمريكي في ساحات الجامعات وعلى وسائل التواصل.فالأكاذيب بدأت تنفضح تباعا.. ولن يعود ممكنا أن تستمر إسرائيل في ارتكاب جرائمها تحت ستار الديمقراطية أو القداسة، ولا بد أن تصحو شعوب الغرب وتواجه الصهيونية التي نخرت أنظمتها وعقولها.