الإغلاق الحكومي الأمريكي.. هدنة تحت سقف الأزمة
الأربعاء / 21 / جمادى الأولى / 1447 هـ - 00:22 - الأربعاء 12 نوفمبر 2025 00:22
لم يكن الاتفاق الذي أبرمه مجلس الشيوخ الأمريكي بين الجمهوريين والديمقراطيين سوى محطة عابرة في طريق أزمة أعمق، تمتد جذورها إلى قلب الانقسام السياسي والاجتماعي في الولايات المتحدة. فالإغلاق الذي استمر أربعين يوما، في رقم قياسي جديد، لم ينتهِ بحل شامل، بل بما يشبه هدنة مؤقتة تحت سقف الأزمة، تسمح بعودة التمويل الفيدرالي مؤقتا حتى يناير المقبل، دون أن تنهي الخلاف حول القضايا التي أشعلت الصراع من البداية.الواقع أن واشنطن لم تتفق بقدر ما تعبت من الشلل السياسي. فالتوقف الطويل عن صرف رواتب الموظفين وتعطل الخدمات العامة وضعا الحزبين أمام ضغط شعبي واقتصادي غير مسبوق. لكن هذا الضغط لم ينتج تسوية سياسية حقيقية، بل دفع الطرفين إلى تجميد خلافاتهما مؤقتا، بانتظار جولة جديدة من المفاوضات في مطلع العام المقبل، حين يعود ملف التمويل إلى الطاولة من جديد.هدنة لا تسويةالاتفاق الذي مر في مجلس الشيوخ لا يحمل ملامح 'اتفاق سياسي'، بقدر ما يعكس توازنا هشا بين التعب والإكراه. الجمهوريون أرادوا كسب الوقت وتأجيل النقاش حول ملفات الرعاية الصحية والإعانات الاجتماعية، فيما حاول الديمقراطيون تجنب استمرار الإغلاق الذي بدأ يضر بشعبيتهم أيضا.وهنا يمكن القول إن الطرفين اتفقا ليس لأنهما وجدا حلا، بل لأنهما لم يعودا قادرين على تحمل كلفة استمرار الأزمة.التمويل المؤقت حتى يناير لا يعد انتصارا لأي من الطرفين من حيث المضمون، لكنه مكسب تكتيكي لترامب من حيث إدارة الإيقاع. فالاتفاق جاء بصيغة تسمح له بتمرير المرحلة دون الالتزام الفوري بالتنازلات التي ضغط بها الديمقراطيون، وخصوصا ما يتعلق ببرامج الرعاية الصحية.انقسام داخل البيت الديمقراطياللافت في هذه الأزمة أن الانقسام لم يقتصر على الخط الفاصل بين الجمهوريين والديمقراطيين، بل امتد إلى داخل الحزب الديمقراطي نفسه.زعيم الديمقراطيين في مجلس الشيوخ تشاك شومر قاد جناحا معترضا على الاتفاق، معتبرا أنه لا يقدم ما يكفي من ضمانات لحماية برامج الدعم الاجتماعي، وأنه يمدد إعانات الرعاية الصحية بدلا من تمويلها بشكل مباشر.في المقابل، رأى الجناح البراغماتي في الحزب أن إنهاء الإغلاق بات ضرورة سياسية، وأن أي تأجيل للخدمات الحكومية سيفقد الحزب ثقة الشارع.هذا الانقسام يعكس صراعا أعمق حول الهوية الفكرية للديمقراطيين: هل يبقون حزب الدفاع عن العدالة الاجتماعية مهما كان الثمن، أم يتحركون بمرونة واقعية تتيح التفاهم المرحلي مع الجمهوريين؟الجواب حتى الآن غير محسوم، لكن الأزمة الأخيرة أظهرت بوضوح أن شومر يواجه معضلة مزدوجة: ضغط قواعده التقدمية من جهة، وضغط الرأي العام الغاضب من جهة أخرى.ترمب وإدارة الانطباعفي المقابل، تعامل دونالد ترمب مع الأزمة بأسلوبه المألوف: إدارة الانطباع العام أكثر من إدارة التفاصيل السياسية.حين قال أمام الصحافيين 'الإغلاق يقترب من نهايته'، لم يكن يعكس توافقا حقيقيا مع الكونغرس بقدر ما كان يوجه رسالة إلى الرأي العام بأن الحل جاء بقراره هو، لا نتيجة تنازلات سياسية.ترمب يدرك أن الأمريكي العادي لا يهتم بكواليس التفاوض بقدر ما يهتم بالنتيجة: هل الدولة تعمل أم لا؟ ولهذا سعى إلى احتواء الغضب الشعبي وإظهار نفسه بمظهر الرئيس الحازم الذي أنهى الأزمة بإرادته.لكن الحقيقة أن ما حدث كان ثمرة ضغط شعبي واقتصادي أجبر جميع الأطراف على التراجع خطوة إلى الوراء.نصر تكتيكي لترمبرغم أن الاتفاق مؤقت، إلا أنه يعد نصرا تكتيكيا لترمب على شومر في هذه الجولة الطويلة.فقد استطاع الرئيس أن يدفع خصومه نحو اتفاق لا يحقق شروطهم، بل يمنحه مساحة زمنية لإعادة ترتيب أولويات البيت الأبيض حتى يناير.كسر وحدة الموقف الديمقراطي، وفرض على شومر القبول بتسوية ينظر إليها داخل الحزب على أنها تنازل اضطراري.بذلك خرج ترمب من المعركة وهو من يملك ورقة الوقت، بينما وجد شومر نفسه أمام مهمة شاقة لتبرير ما حدث أمام قاعدته.ورغم أن هذا النصر لا يعني نهاية المعركة، إلا أنه منح ترمب دفعة سياسية يحتاجها في مرحلة يسعى فيها لتثبيت صورته كزعيم قادر على فرض إيقاعه حتى وسط الانقسام.ففي النهاية، واشنطن اليوم تحاول أن تتنفس بعد أطول إغلاق حكومي في تاريخها، لكن الأسباب التي أغلقتها لا تزال قائمة، من خلافات حول الرعاية الصحية إلى الجدل حول دور الحكومة الفدرالية وحدودها.إلى أين تتجه واشنطن؟المشهد الأمريكي اليوم يعكس ديمقراطية متوترة أكثر منها متوازنة. كل طرف يسعى إلى كسب الوقت لا إلى تقديم الحل.الاتفاق الأخير أنهى الإغلاق، لكنه لم ينهِ الأزمة.ما حدث هو هدنة سياسية في معركة مستمرة حول هوية الدولة: هل تتجه أمريكا نحو نموذج أكثر اجتماعية، أم تعود إلى فلسفة الدولة المحدودة التي يدافع عنها المحافظون؟من الواضح أن المعركة المقبلة في يناير لن تكون حول الأرقام فحسب، بل حول الخيارات الكبرى لمستقبل الولايات المتحدة.فما يجري اليوم ليس مجرد نزاع مالي، بل صراع على طبيعة العقد الاجتماعي الأمريكي ذاته، بين من يرى الدولة أداة حماية للمجتمع، ومن يراها عبئا على السوق.وفي النهاية، يمكن القول إن الإغلاق انتهى، لكن أمريكا لا تزال في حالة إغلاق سياسي، تنتظر لحظة حسم قد لا تأتي إلا عندما يقرر أحد الطرفين أن يتحدث بلغة الوطن لا بلغة الحزب.mr_alshammeri@