سفرجلات
الثلاثاء / 20 / جمادى الأولى / 1447 هـ - 22:08 - الثلاثاء 11 نوفمبر 2025 22:08
تقف قرب القدر الكبير، تقلب السفرجل بملعقة خشبية على نار هادئة كي لا يلتصق، وتنثر القرنفل الأشقر مع حب الهال الفواح كأنها تنثر شيئا من روحها فوقه. ورويدا رويدا تتحول قساوة الثمرة إلى مربى مقرمش، بلون أحمر ياقوتي يسلب الحواس. هناك صديقة في حياتي تصنع هذا... وتحتمل تعب هذا.. وتظل تدهشنا بما يخرج من بين يديها من أطايب.إن مفهوم التحول الذي يحدث في القدر ليس بعيدا عما يحدث في العلاقات البشرية، فالصداقة نفسها تمر بتحولات نفسية واجتماعية عبر الزمن. لذلك تعد من أقدم البنى الاجتماعية التي رافقت الإنسان منذ خلقه، لكنها كذلك من أكثر العلاقات قابلية للتبدل بفعل التحولات المعاصرة. فبينما كانت شبكة أمان اجتماعية لا غنى عنها، أصبحت اليوم علاقة تتأرجح بين العمق والسطحية، وبين الحضور الحقيقي والحضور الرقمي. ومع ذلك، هناك حقيقة ثابتة: أن الصداقة دعامة رئيسية للعافية والطمأنينة والاتزان الداخلي، لا تقل أبدا عن أهمية الرياضة والغذاء.تظهر الدراسات أن وجود علاقات صداقة وثيقة يرفع مستوى هرمون الأوكسيتوسين، وهو خط الدفاع الأول ضد التوتر المزمن. وتشير نماذج علم النفس التطوري إلى أن الإنسان يحتاج إلى رفيق يشاركه البقاء والدعم، إذ تعمل الصداقة كمناطق آمنة للبوح وتنظيم الانفعالات، بينما تكشف أبحاث الهوية العاطفية أن أثر الصداقة على النساء أشد عمقا منه لدى الرجال.أظهرت دراسة لـ Harvard Women›s Health Watch أن النساء اللواتي يملكن صديقة مقربة ينخفض لديهن خطر الاكتئاب بنسبة 35 - 40%، مع تحسن في المناعة وتنظيم النوم وتوازن الهرمونات. وفي المقابل، تشير تقارير CDC مركز السيطرة على الأمراض والوقاية الأمريكي، إلى أن العزلة الاجتماعية قد ترفع خطر أمراض القلب بنسبة 29% والخرف بنسبة 50%.ويتم الاستفادة من الصداقات الناضجة لاعتمادها على العلاقات الأفقية ومساحات البوح والتعبير، خاصة مع تراجع الأدوار التقليدية وتقدم العمر، ما يجعلها ركيزة حيوية في جودة الحياة والصحة النفسية.واليوم تغير المشهد جذريا؛ إذ تنوعت دوائر المعارف، وأصبحت الصداقة مرتبطة بالاهتمامات السريعة، وحلت العلاقات العاجلة محل تلك المتراكمة عبر السنين. وظهر الصديق الرقمي الذي أفرزته السوشيال ميديا عبر كبسة زر، فازدادت العلاقات عددا وتراجعت جودة، واتسعت انتشارا لكنها باتت أقصر عمرا. ورغم سهولة البقاء على اتصال عبر الفضاء الرقمي، يفتقر التواصل الافتراضي إلى حرارة اللقاء الحقيقي؛ فلا يمكن لمئة «إعجاب» أن تعادل نظرة فهم واحدة من صديق يجلس أمامك وأنت تشاركه الهموم.في منتصف العمر تمر هوية الإنسان بمرحلة إعادة ترتيب مع انحسار أدوار الوالدية والوظيفة ومسؤوليات الأبناء، وتصبح العلاقة مع الذات محورا أساسيا. وبالتالي تبرز الحاجة إلى صداقة ناضجة تخفف التوترات الوجودية المرتبطة بالمرض والتحولات الجسدية واحتمال الوحدة، وتعيد للمرء الإحساس بالجدارة والانتماء. وتتزايد أهمية هذه الروابط الأفقية مع تقلص العلاقات الرأسية المرتبطة بالأبناء والوالدين.وتشير الاتجاهات الاجتماعية المعاصرة إلى أن الصداقة مقبلة على تحولات كبيرة خلال العقدين القادمين؛ فتصاعد الفردانية سيقلل الاعتماد الأسري، بينما ستغدو دوائر الصداقة خط الدفاع العاطفي الأول. ومع تقدم العالم في العمر، سيصبح وجود الصديق عنصرا بنيويا في جودة الحياة. وقد تظهر أشكال جديدة للعلاقات، مثل الصداقات الوظيفية مع التطبيقات والروبوتات، وإن ظلت الحاجة للعلاقة الإنسانية المباشرة أساسية. وقد يعاد تعريف الصداقة نفسها، لتظهر صداقة الاختصاص؛ أي صديق للدعم النفسي، وآخر للمعرفة، وثالث للأنشطة، بدل الصديق الشامل الذي عرفته الأجيال السابقة.ولأن مستقبل الصداقة يتجه نحو مزيد من الانتقائية، يبقى معيارها الحقيقي كما وضعه الحكماء قديما «لا يكون الصديق صديقا حتى يحفظ أخاه في ثلاث: في نكبته، وغيبته، ووفاته». وعلى هذا المنوال جاء قول كونفوشيوس «اختر أصدقاءك ممن يفوقونك خلقا وفضيلة؛ فالصديق الصالح مرآة، إما أن يرفعك أو يجرك معه». وهي مبادئ تتجاوز الزمن، تدل بوضوح على أن القرين بالمقارنة يقارن، وأن الفرق الجوهري بين حامل المسك ونافخ الكير باق مهما تغيرت الأزمنة.ومن هنا تأتي الحاجة إلى صداقة حقيقية تصنع كما تصنع «السفرجلات» عبر السنين؛ صبر ودفء وحضور. زيارة صادقة، مكالمة حانية، لقاء دوري، تخطٍ وإنصات مخلص. صداقة أخوية تعرف فيها أن أسرارك في أمان، وأن غيابك لن يعرضك لطعنة، وأن يد الأصدقاء ستمتد لتنتشلك عند التعثر.فطوبى لكل من يصنع السفرجلات.smileofswords@