الرأي

من النقد إلى المبادرة.. الفارق بين من يتكلم ومن يصنع الفرق!

فهد عبدالله العنزي
في كل بيئة عمل، هناك ذلك الموظف الذي لا يغيب صوته عن أي نقاش، يملك رأيا في كل مشروع، وملاحظة على كل قرار، لكنه حين يطلب منه أن يشارك أو يقترح أو يبادر، يختفي خلف عبارات مثل 'ما لي علاقة' أو 'هم لا يسمعون أصلا'. ذلك النمط من الأشخاص لا يعيش ليصلح، بل ليثبت أنه كان على حق، حتى لو توقف كل شيء من حوله.وربما ليس أصعب من أن يرى الإنسان خللا في واقعه، ولا يملك الشجاعة ليكون جزءا من الحل. فالنقد مريح، لأنه يمنحنا شعورا مؤقتا بالتفوق، أما المبادرة فمرهقة لأنها تكشف ما إذا كنا قادرين فعلا على التغيير. ولعل الحقيقة التي نخشى الاعتراف بها، هي أن بعض النقد ليس شجاعة، بل هروب في ثوب أنيق.من زاوية علم النفس التنظيمي، كثير من هؤلاء النقاد الدائمين لا يفعلون ذلك بدافع الإصلاح، بل من خوف خفي من المسؤولية أو من الفشل. فالنقد يمنحهم إحساسا مؤقتا بالتفوق دون أن يكلفهم أي التزام، فهم يضعون أنفسهم في موقع 'المحلل' لا 'الفاعل'. وغالبا ما تجد أن من يكثر من النقد، يقل عطاؤه، والعكس صحيح.ومن منظور أعمق في علم النفس التنظيمي، يمكن تفسير هذا السلوك بما يعرف في الدراسات النفسية بآليات الدفاع الإداري، حيث يميل بعض الأفراد إلى انتقاد الآخرين لحماية صورتهم الذاتية من الإخفاق، فيرجعون السبب دوما إلى النظام أو الزملاء لا إلى قصورهم. كما تشير الدراسات إلى أن الخوف من الفشل قد يدفع البعض إلى التراجع عن التجربة والاكتفاء بدور 'المحلل'، لأن الفعل قد يعرضهم للمساءلة، بينما النقد لا يحملهم أي تبعة. وهكذا يتحول النقد إلى درع نفسي يقي صاحبه من المواجهة، لكنه في المقابل يمنعه من التقدم.أما من الجانب الإداري، فالنقد السلبي المستمر يمثل أحد أكثر معوقات التطوير خطورة، لأنه يخلق ما يمكن أن نسميه المقاومة الهادئة. فبدلا من أن يواجه النظام مقاومة صريحة يمكن التعامل معها، يواجه طاقة سلبية تتخفى في المكاتب، تضعف روح الفريق، وتزرع الإحباط في بيئة العمل.وهنا يظهر لدي سؤال هو: لماذا نتحسس من النقد ونطرب للمدح؟تظهر دراسات في علم النفس العصبي أن أدمغتنا تتفاعل مع النقد كما تتفاعل مع الألم الجسدي، إذ تنشط المناطق ذاتها المسؤولة عن الإحساس بالتهديد. لهذا السبب، يتولد لدينا رد فعل فوري بالدفاع أو التبرير أو الإنكار، حتى قبل أن نفكر في مضمون النقد ذاته. بينما يحفز المدح في المقابل نظام المكافأة في الدماغ، فيفرز مشاعر الرضا والانتماء، فيميل الإنسان إلى من يمدحه أكثر ممن يصححه. وهنا تكمن الحكمة، أن نتعلم كيف نسمع النقد دون أن نحمله كإهانة، وأن نقدره كفرصة للنمو، لا كتهديد للذات. فكل من يتقبل النقد بوعي، يمتلك أول مفاتيح التطور الشخصي والمهني.ومن خلال تجربتي العملية في الإدارة، التقيت بنماذج كثيرة من هذا النوع، ممن يتحدثون عن المشكلات يوميا دون أن يقدموا اقتراحا واحدا للحل. وفي المقابل، التقيت بقادة ملهمين يملكون نظرة مختلفة تماما، لا يتوقفون عند اكتشاف الخلل، بل يطرحون السؤال الأهم 'وماذا بعد؟'.هذا السؤال البسيط في ظاهره، العميق في مضمونه، يحول النقد إلى مسار تطوير، والمشكلة إلى مشروع عمل، لأن القيادة الحقيقية لا تكتفي بوصف الواقع، بل تصنع منه فرصة للتغيير.ولكي نحول النقد إلى مبادرة، علينا أولا أن نبدأ بتغيير النية، من رغبة في إظهار العيب إلى رغبة صادقة في إيجاد الحل. بعدها تأتي الخطوة الثانية وهي تحديد ما يمكن فعله ضمن الدائرة الممكنة، فليس كل نقد يحتاج قرارا وزاريا؛ بعض الحلول تبدأ من الإنسان نفسه. أما الخطوة الثالثة، فهي صياغة النقد في شكل اقتراح مكتوب وواضح، فالكلمات العابرة لا تبنى عليها قرارات. حينها يتحول الصوت الناقد إلى صوت مسهم في الحل، يصبح النقد أداة تطوير لا وسيلة تذمر.إن التحول الوطني الذي تعيشه المملكة اليوم في ظل رؤية الخير 2030 يقوم على ثقافة المبادرة والمساءلة، لا ثقافة الشكوى واللوم. فالوطن لا ينتظر من يعدد الأخطاء، بل من يمد يده ليبادر. المؤسسات التي تنجح ليست تلك الخالية من النقد والملاحظة، بل تلك التي تحول النقد إلى فعل، والملاحظة إلى مشروع تطوير. فكلنا نحتاج من يذكرنا بخطئنا بلطف، كما نحتاج من يشجعنا بصدق. فالحياة لا تمضي بالنقد وحده، ولا بالمدح وحده، بل بتلك المساحة المتزنة التي ترى الإنسان قبل الأداء، والنوايا قبل النتائج. وحين نتعلم أن ننقد لنصلح، ونسمع النقد لنتطور، نكون قد بدأنا أول طريق النضج الإنساني قبل المهني.