الرأي

(خطاب ولي العهد... ينجز ما وراء البيان، وصوت يصنع الواقع)

جمال القعبوبي
في فضاء التداوليات اللسانية وتحليل الخطاب، لم يعد الكلام مجرد وسيلة للتعبير، بل صار أداة إنتاج لصنع الواقع وتشكيل المواقف؛ فينظر إليه هنا بوصفه فعلا إنجازيا يتجاوز حدود البيان إلى التأثير والتغيير. ومن هذا المنطلق، تتجلى خطابات، سمو ولي العهد، بوصفها نموذجا متكاملا للفعل اللفظي الذي يتحول إلى سلوك، واقعي وموقف وطني. وتحليل هذا الخطاب، لا على مستوى ما قيل فقط، بل على مستوى ما أنجز وقصد وتم إحداثه من خلال اللغة ومقاصدها.في قمة البريكس، حين قال سموه «نجدد رفضنا القاطع للعمليات الإسرائيلية في قطاع غزة... وأطالب جميع الدول بوقف تصدير الأسلحة والذخائر لإسرائيل». لم تكن تلك العبارات موقفا بيانيا فحسب، بل كانت أفعالا كلامية من النمط الإلزامي وفقا لنظرية «سيرل» في الأفعال الكلامية، حيث تنجز الأفعال لا باليد، بل بالكلمة، حين تصدر من فاعل يملك السلطة والشرعية والمكانة. فخطاب سمو ولي العهد، لم يكن كلاما مجردا من القوة الإنجازية، بل خطابا مؤطرا بمقام سياسي مؤهلا وقادرا، ما يجعل القول فعلا، والكلمة موقفا يترجم في الواقع.ويتعزز هذا التأثير حين ننظر إلى الخطاب من خلال نظرية الاتصال الكلاسيكية التي صاغها شانون وويفر، والتي تقوم على خمسة عناصر: المرسل، والرسالة، والقناة، والمستقبل، والأثر. ففي خطاب سمو ولي العهد، يهيمن الاتساق التام بين هذه العناصر، فالمتكلم هو شخصية قيادية ذات حضور دولي وشرعية سياسية عليا، والرسالة واضحة مباشرة صريحة ذات أبعاد إنسانية وسياسية، والقناة هي قمة البريكس ذات الطابع العالمي، والمستقبلون هم قادة العالم ومؤسساته، أما الأثر فهو تشكيل اتجاه دولي نحو إعادة النظر في دعم الاحتلال وإعادة توازن المواقف. بهذا المنظور، يتمكن الخطاب من تحقيق «الكفاءة التواصلية» التي تمنحه بعدا وظيفيا يتجاوز إبلاغ المعنى إلى إنتاج الفعل.ومن منطلق التداولية، فإن الخطاب الناجح لا ينجز فقط عبر الألفاظ، بل يشترط له ما يعرف بشروط الإنجاز التداولي، ومنها المواءمة بين المقام والمتكلم والمحتوى، وامتلاك المتكلم للسلطة الفعلية التي تخول له قول ما قاله، وهي شروط متحققة تماما في خطابات سمو ولي العهد. فإذا نطق، أنجز، وإذا قال، صنع واقعا. فعبارات مثل تلك التي ألقاها في قمة البريكس، لو صدرت عن شخصية لا تمتلك المقام ذاته، لما اكتسبت تلك القوة الإنجازية ولا أحدثت هذا الأثر السياسي الواسع.ولا يكتمل تحليل الخطاب دون التوقف عند سؤال التوقيت، إذ يرتبط المعنى السياسي دائما بزمانه وسياقه؛ فقد كان خطاب سمو ولي العهد، في لحظة تصاعدت فيها الاعتداءات على غزة، وهو ما منح الخطاب شرعية أخلاقية، واستثمارا ذكيا للمنصة الدولية لحشد التضامن العالمي لنصرة المظلومين. إن اختيار لحظة التوقيت لا يعكس فقط استجابة إنسانية، بل يظهر «ذكاء تواصليا استراتيجيا» في توظيف الحدث العالمي لمناصرة القضايا العربية والإسلامية.وثمة بعد رمزي بالغ الدلالة يتجلى في المكان الذي ألقي منه الخطاب، وهو مكتب الملك فيصل - رحمه الله - القائد العربي التاريخي الذي واجه العالم في سبعينيات القرن الماضي، وقطع النفط عن الغرب في موقف بطولي لا يزال حيا في الذاكرة السياسية. هذه الإشارة المكانية تحلل من منظور المنهج السيميولوجي بوصفها توظيفا رمزيا للبيئة البصرية والمرجعية التاريخية لتكثيف المعنى وتوجيه الرسالة ضمن خطاب متعدد الطبقات: اللفظ، والمكان، والإشارة الثقافية. فوفقا للمستوى التضميني في التحليل السيميائي، يصبح المكان دالا على المعنى، وحاملا لرسائل أيديولوجية تمثل امتدادا رمزيا لسيادة المملكة وعمقها التاريخي.وبناء عليه؛ فإن تصريحات سمو ولي العهد، لا ينبغي أن تقرأ قراءة سطحية، أو تقليدية، إذ تستدعي مقاربات تحليلية متعددة الأبعاد، تواكب الرؤية المركبة والمستوى الرفيع لأداء سموه، وهذه العبقرية المتفردة التي يتحلى بها سموه تفرض على الخطاب الإعلامي في مستوياته المسموعة والمقروءة والمرئية أن تسمو في تحليلها، وأدواتها، ومعاييرها؛ ليبلغ آفاقا من العمق والفهم تليق بمستوى المشروع الحضاري الذي يقوده سمو ولي العهد؛ ليدرك أبناء الوطن عظمة قادته؛ فيزداد الارتباط، والانتماء، والفخر عند أبناء الوطن من هؤلاء القادة.