الرأي

نقد في العقيدة الأوبامية: أوباما من إرجاع تمثال تشرشل إلى فوضى الربيع العربي

فيصل الشمري
حين أعلن الرئيس السابق باراك أوباما، قبيل انتخابه رئيسا للولايات المتحدة عام 2008، رغبته في «تغيير أمريكا من جذورها»، لم يكن يمزح ولم يدرك الكثيرون حتى أنا أن هذا الشعار سيمتد أثره إلى بنية النظام الدولي ذاته، لا إلى الداخل الأمريكي فقط. فبعد ثمانية أعوام من حكمه، تغيرت معادلة القوة في العالم وكانت نواة تحول العالم إلى متعدد الأقطاب، وتبدلت موازين الثقة بين واشنطن وحلفائها التقليديين، فيما اشتعل الشرق الأوسط بسلسلة من الاضطرابات حملت اسم الربيع العربي، الإصلاح هو الخريف العربي ووقعته عقيدة أوباما بأحرف واضحة وتأثير كبير، فيما كانت تجارب وزارة الخارجية الأمريكية قبل الخريف العربي هي الثورة الملونة في أوكرانيا.أولا: مؤشرات التغيير من لندن إلى واشنطنمنذ الحرب العالمية الثانية، كانت العلاقة بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة توصف بأنها «خاصة». لكن أحد الرموز التي عكست تحولا مبكرا في تلك العلاقة كان ما حدث بعد أسابيع من دخول أوباما إلى البيت الأبيض، حين أزيل تمثال ونستون تشرشل من المكتب البيضاوي قيل إن أوباما يرفض التاريخ ويرفض تمثال الامبريالي المستعمر تشرشل، تمثال برونزي أعارته لندن لواشنطن منذ عهد الرئيس جورج بوش الابن هدية بعد أحداث 9/11 وأعيد إلى السفارة البريطانية.رغم أن البيت الأبيض أوضح لاحقا أن التمثال نقل فقط إلى موقع آخر داخل المبنى، إلا أن الخطوة فسرت سياسيا في بريطانيا بأنها إشارة رمزية إلى فتور في العلاقة التاريخية بين البلدين. هذه الحادثة الصغيرة في ظاهرها كانت تعبيرا مبكرا عن اتجاه أوسع: مراجعة أوباما لتحالفات بلاده القديمة التي جعلت أمريكا الدولة القوية، واعتقاده أن العالم لم يعد بحاجة إلى أمريكا بوصفها زعيمة لا يستغنى عنها.ثانيا: الحلفاء القدامى.. عبء في نظر أوبامافي أوروبا، فضل أوباما الانكفاء عن قيادة الحلف الأطلسي، مكتفيا بإشارات عامة إلى التعاون متعدد الأطراف، بينما كانت روسيا تعيد بناء نفوذها في أوكرانيا وسوريا. وفي الشرق الأوسط، بدا التحول أوضح وأعمق. فالدول التي كانت تعتمد على واشنطن كحائط استقرار، مثل السعودية ومصر والأردن، وجدت نفسها أمام إدارة تتعامل ببرود، وتعيد تعريف مفهوم «التحالف» وفق اعتبارات قيمية مؤقتة لا وفق مصالح استراتيجية مستمرة. تنم على العقيدة الأوبامية التي ترى الولايات المتحدة الأمريكية نفسها عبئا على النظام الدولي.كان أوباما يعتقد أن على أمريكا أن تتراجع خطوة إلى الخلف لأن هيمنتها الدولية لا تتناسب مع العقيدة التي يؤمن بها، ولتمنح المجتمع الدولي مرونة أكبر والحلفاء والمنافسين فرصة أكبر في تقرير سياساتهم، لكن ذلك الانسحاب خلق فراغا في القوة سرعان ما ملأته قوى دولية وإقليمية لها أهدافها الخاصة؛ فتمددت روسيا في سوريا وجورجيا وأوكرانيا، وصعدت الصين اقتصاديا، مهددة بالاستحواذ على خطوط الملاحة الحيوية في بحر الصين الجنوبي، الفراغ التي تركته الولايات المتحدة الأمريكية تسبب في كوارث سياسية.ثالثا: الربيع العربي.. الفوضى باسم الحريةحين اندلعت موجات الاحتجاج في العالم العربي عام 2011، رأت فيها إدارة أوباما فرصة لتطبيق رؤيتها عن «نشر الديمقراطية» و«تمكين الشعوب» تجربة الثورة الملونة في أوكرانيا. غير أن السياسة الأمريكية لم تفرق بين حراك شعبي مشروع وبين مشاريع قوى أيديولوجية استغلت الغضب لتقويض مؤسسات الدولة.في مصر، تخلى أوباما بسرعة عن حليف بلاده التقليدي الرئيس حسني مبارك رحمه الله، ودعم صعود جماعة الإخوان المسلمين، معتبرا ذلك «تحولا ديمقراطيا». لكن التجربة أثبتت أن الجماعة لم تكن تحمل مشروعا وطنيا جامعا، بل مشروعا عابر للحدود إقصائيا أدى إلى انقسام حاد في المجتمع المصري وفي العالم العربي. وحين استعاد الجيش السلطة استجابة لإرادة شعبية واسعة، اختارت واشنطن تجميد المساعدات العسكرية، في خطوة رآها المصريون تقويضا لشراكة امتدت أربعة عقود.في ليبيا، قادت واشنطن عمليات حلف الناتو التي أسقطت نظام معمر القذافي دون خطة لما بعد السقوط، فتحولت الدولة إلى ساحة مفتوحة للميليشيات، وبرزت فيها التنظيمات المتطرفة التي سرعان ما صدرت الفوضى إلى جوارها.وفي سوريا، اكتفى أوباما بتصريحات حذرة وخطوط حمراء لم تنفذ، تاركا المجال للتدخل الروسي والإيراني، الأمر الذي غير ميزان القوى في المنطقة، وأعاد موسكو لاعبا رئيسيا بعد غياب دام عقودا.رابعا: إيران والاتفاق النووي.. الرهان الخطرمنذ الثورة الإيرانية عام 1979، كانت طهران تعتبر واشنطن خصما استراتيجيا. لكن أوباما اختار مسارا مختلفا، تمثل في «الاتفاق النووي» عام 2015 (JCPOA). بموجب الاتفاق، جرى رفع العقوبات تدريجيا عن إيران مقابل تقييد أنشطتها النووية لمدة محددة، وإعادة الوصول إلى بعض أصولها المجمدة في الخارج.رأى مؤيدوه أن الاتفاق خطوة واقعية لتجنب الحرب، فيما اعتبره منتقدوه تنازلا مجانيا مكن طهران من تمويل أذرعها الإقليمية في العراق ولبنان واليمن، وذلك ما حدث وكلف المنطقة الكثير.رفض أوباما اعتراضات إسرائيل والدول العربية على الاتفاق، مفضلا ما وصفه بـ«الرهان على الاعتدال الإيراني». لكن الأحداث اللاحقة أثبتت أن إيران استغلت الانفتاح لتعزيز نفوذها العسكري والسياسي في المنطقة.خامسا: تراجع القيادة الأمريكية وتصدع الثقةما بين تمثال تشرشل وملف إيران والربيع العربي، كانت الثابتة الوحيدة في عهد أوباما هي تراجع الثقة. فقد شعر الحلفاء الأوروبيون وفي شرق اسيا أن واشنطن لم تعد الضامن الحازم لأمنهم، بينما رأت دول الشرق الأوسط أن أمريكا تتعامل معها بمنطق مزدوج: دعم للفوضى باسم الحرية، وصمت أمام توسع إيران باسم الدبلوماسية ودعم لا محدود لإسرائيل.حتى داخل الولايات المتحدة، تزايد الانقسام العرقي بعد سلسلة أحداث تعامل معها أوباما بخطاب بدا للبعض متحيزا، من قضية أستاذ هارفارد هنري لويس غيتس إلى قضية فيرغسون. ومع أنه دعا إلى الحوار، فإن طريقته في تناول تلك القضايا رسخت انطباعا بأن «أمريكا ما بعد العنصرية» لا تزال بعيدة المنال.الخاتمة: إرث التغيير الذي لم يكتملحين غادر أوباما البيت الأبيض عام 2017، كانت أمريكا مختلفة. داخليا، ازدادت الاستقطابات السياسية والعرقية. وخارجيا، بات حلفاؤها التقليديون في حالة حذر، وخصومها في حالة صعود.لقد نجح أوباما في «تغيير» أمريكا والعالم، لكن ليس في الاتجاه الذي وعد به. فقد تفككت التحالفات التي كانت تشكل العمود الفقري للسياسة الغربية منذ الحرب العالمية الثانية، وتحول الشرق الأوسط إلى مسرح فوضى مزمنة، بينما أعادت روسيا وإيران تثبيت أقدامهما كقوتين إقليميتين فاعلتين.كان أوباما يطمح إلى عالم أكثر عدلا وتعاونا وفق عقيدته اليسارية، لكنه ترك وراءه عالما أكثر انقساما، وأمريكا أقل ثقة في نفسها وفي حلفائها.ومن تمثال تشرشل الذي غادر المكتب البيضاوي، إلى ربيع عربي تحول إلى خريف طويل، يبقى إرث أوباما السياسي شاهدا على أن النيات المثالية وحدها لا تصنع نظاما عالميا أكثر استقرارا.mr_alshammeri@