حين تتحول الأحكام القضائية إلى محتوى
الاثنين / 5 / جمادى الأولى / 1447 هـ - 11:09 - الاثنين 27 أكتوبر 2025 11:09
في زمن أصبحت فيه الكلمة تنتقل أسرع من الضوء، تحول القضاء - وهو أقدس أركان الدولة - إلى مادة يتداولها الناس بين قروبات «الواتس أب» أو عدسات (سناب-شات) حتى بات الحكم القضائي الذي كتب بوقار العدالة، يقرأ في مقهى، ويناقش في بث مباشر، ويفسر على غير وجهه، وكأنه قصة اجتماعية أو مناسبة للشماتة.الخلع، الطلاق، الحضانة، النفقة، بل وحتى القضايا الجنائية وغيرها جميعها خرجت من القاعة الرسمية إلى مجالس العوام. يتحدث الناس عنها وكأنهم قضاة، وينشرون صور الأحكام وصكوك القضاء كأنها وثائق عامة، مع أنها في حقيقتها وثائق سيادية تمثل قول الدولة النهائي في النزاع، وتحمل توقيع العدالة وختم هيبتها.إن الأحكام القضائية ليست أوراقا قابلة للتداول الشعبي، بل هي وثائق رسمية محمية بموجب النظام. فقد عبر نظام المرافعات الشرعية بموجبه على أن الأحكام القضائية واجبة الاحترام، ولا يجوز المساس بها إلا بطرق الطعن المقررة نظاما.وحين تلتقط صورة من صك حكم وتنشر في «قروب»، أو حين يتناول حكم خلع باعتباره نصرا اجتماعيا أو يجوز التعبير أن نقول فضيحة أسرية، فإننا أمام انتهاك مزدوج يتمثل بمساس حرمة القضاء، واعتداء على خصوصية أطراف الدعوى.نلاحظ في السنوات الأخيرة، ظهرت ظاهرة مؤسفة البعض يسميها بـ»حفلات الخلع»، حيث تعلن بعض السيدات عن حصولهن على حكم بالخلع عبر مقاطع مصورة أو تغريدات احتفالية.وهي في ظاهرها تعبير عن الفرح، لكنها في حقيقتها كسر لحرمة القضاء، لأن الحكم ليس قرارا شخصيا، بل وثيقة سيادية لا تملك أي جهة أو شخص نشرها دون إذن.وبالمناسبة لا يعاب على المرأة فرحها بحريتها، ولكن يعاب على المجتمع أن يجعل من حكم قضائي مادة للعرض والنشر تمس حرية شخصية لأطراف الدعوى، لأن ذلك يبدد هيبة العدالة، ويحول القضاء من منبر للإنصاف إلى مشهد للتفاعل.وإن الواجب المؤسسي اليوم هو أن تتدخل وزارة العدل ومجلس القضاء الأعلى بوضع ضوابط واضحة وصارمة تحكم تداول الأحكام، وينبغي أيضا أن يهمش على أن الأحكام القضائية لا يجوز نشرها.. إلخ ، وأن كل من يقوم بذلك يعاقب وفق نظام الجرائم المعلوماتية، كما يمكن - أقترح - إنشاء وحدة (صيانة الأحكام) ضمن التنظيم الإداري في الوزارة، تتولى مراقبة أي تداول غير رسمي للأحكام، وإصدار بلاغات فورية للجهة المختصة.إن رقمنة العدالة لا بد أن توازيها رقابة عدلية رقمية تحفظ مضمون الوثيقة من التسريب، لأن الفتح الالكتروني دون حماية يعرض القضاء لما لا يليق بمقامه، ونؤكد أن القضاء يحتاج إلى مجتمع يحترم هيبته.ينبغي أن نرسخ في الثقافة العامة أن الأحكام ليست مادة للحديث، وأن من يناقشها خارج الإطار النظامي كمن يتحدث عن أسرار الدولة، والقاضي حين يصدر حكمه، لا يخاطب الجمهور، بل يخاطب القانون. وأي تداول شعبي للحكم دون فهم أو إذن رسمي يشوه الرسالة ويربك الثقة العامة بالعدالة.ختاما: الرسالة لمعالي الوزيرأقول: إن هيبة العدالة ليست شعارا يرمز لجهة وزارية، بل في احترام الكلمة التي تقال تحت اسم الدولة، ومن هنا، فإن ضبط تداول الأحكام أصبح ضرورة وطنية، لا ترفا تنظيميا.فكما أن للأحكام طرق طعن نظامية، يجب أن يكون لها حصانة تداولية تمنعها من أن تصبح سلعة إعلامية، وإذا كانت العدالة تقام باسم الشريعة، فإن واجبنا أن تحفظ لها مكانتها في وجدان الناس، فلا تتحول من مقام الحكم إلى مادة للتداول تمس حرية واعتبار أطراف الدعوى.expert_55@