الرأي

الثقافة السائلة... زمن الأفكار السريعة والاهتمامات المتغيرة

مطير سعيد الزهراني
في مقهى هادئ، جلست أرتشف قهوتي...كان هناك أربعة شبان يتحدثون بحماس عن مباراة الأمس، يصفون الأهداف وكأنهم في المدرجات، ثم ينتقلون فجأة إلى فيلم جديد على منصة رقمية، قبل أن يقفز الحديث إلى فكرة مشروع تجاري، فعلا، لم يستقر الحوار على موضوع واحد أكثر من دقائق معدودة، كان المشهد بسيطا، لكنه اختصر ملامح عصرنا: زمن تتحرك فيه الأفكار والاهتمامات بسرعة، وتستبدل إحداها الأخرى قبل أن تنضج.هذا ما أطلق عليه عالم الاجتماع زيجمونت باومان «الثقافة السائلة»؛ وهي الثقافة التي فقدت صلابتها التي كانت تتميز بها في الماضي، حين كانت القيم والمعايير تستمر لعقود طويلة، وتحرسها المؤسسات التعليمية والإعلامية والفنية، وفي ذلك الزمن، كانت الثقافة مشروعا وطنيا طويل الأمد، يبنى عبر التعليم والأنشطة الثقافية والفنون، بهدف صياغة شخصية الإنسان والحفاظ على هوية المجتمع، أما اليوم، فقد أصبحت الثقافة سوقا مفتوحة للعروض المتغيرة، حيث المهم هو جذب الانتباه باستمرار، حتى لو كان الثمن تبدل المعنى والذوق بلا توقف.ويرى باومان أن هذا التحول نتج عن عوامل متشابكة؛ فالعولمة أزالت الحواجز بين الثقافات، وجعلت تأثيراتها متداخلة بلا حدود، والإنترنت بدوره جعل الوصول إلى المعلومة لحظيا، لكنه قلص عمرها الافتراضي؛ فما يثير الجدل اليوم قد يصبح بلا أثر غدا، أما منطق السوق، فقد أصبح المعيار الأول، حيث يقاس النجاح بالقدرة على جذب المستهلكين وتحقيق الانتشار، لا بجودة المحتوى أو قيمته الفنية، وهكذا تلاشت الحدود التقليدية بين «الفن الرفيع» و«الثقافة الشعبية»، لصالح مبدأ واحد: كل ما يجذب الاهتمام مقبول.وقد طالت هذه السيولة الهويات الفردية، حيث لم يعد الإنسان يقدم نفسه بهوية واحدة مستقرة، بل يعيد تشكيلها تبعا للسياق: في العمل، في وسائل التواصل، وفي الأسرة، وهذه المرونة تمنح فرصا للتجريب والانفتاح، لكنها تخلق أيضا شعورا بالهشاشة، وكأن الذات بلا مرساة ثابتة، وينسحب هذا على العلاقات الاجتماعية، التي كانت تبنى على تراكم الزمن والخبرات، فأصبحت أقصر عمرا وأكثر ارتباطا بالمصلحة أو اللحظة.إن الثقافة السائلة لا تكتفي بتغيير المضامين، بل تغير أيضا طريقة استهلاكنا لها، كما يقول باومان، فأصبحت الثقافة جزءا من اقتصاد استهلاكي عالمي، أشبه بمستودع للبضائع الرمزية، حيث تطرح الأفكار والمنتجات الثقافية بسرعة، ويستبدل الجديد بالجديد دون توقف، فالهدف لم يعد تحقيق الإشباع، بل منع الاكتفاء؛ لأن الاكتفاء يعني توقف عجلة السوق.ورغم أن هذه الصورة تبدو مقلقة، فإن للثقافة السائلة وجها آخر إيجابيا، فهي تمنح الأفراد فرصة الوصول إلى مصادر معرفية وتجارب كانت حكرا على النخب، فشاب في قرية نائية يمكنه اليوم أن يتعلم البرمجة أو التصميم أو التصوير من خلال دورة على الإنترنت، وأن يشارك في نقاش عالمي حول قضية إنسانية، وهذه الإمكانيات لم تكن متاحة قبل عقدين فقط.لكن هذه الفرص لا تتحول إلى مكاسب حقيقية إلا بوجود وعي نقدي، فالمهم ليس وفرة المعلومات، بل القدرة على التمييز بين ما هو عابر وما هو مؤسس، وبين ما يضيف إلى هويتنا وما يذيبها، وهنا تبرز الحاجة إلى ما يمكن تسميته «الثقافة المرنة»؛ ثقافة تحافظ على جذورها وقيمها الأساسية، وفي الوقت نفسه تتكيف مع الجديد وتستفيد منه دون أن تفقد توازنها.وفي عالمنا العربي، يمكن أن نرى ملامح الثقافة السائلة في سرعة تبدل القضايا التي تشغل الرأي العام، وفي انتشار الظواهر الفنية أو الفكرية التي تخبو سريعا بعد أن تشغل الناس لفترة وجيزة، وهذا النمط يطرح سؤالا مهما: كيف نحافظ على ثوابتنا في زمن سريع التغيير؟ الجواب لا يكمن في الانغلاق على الذات، ولا في الذوبان الكامل في التيار، بل في صياغة رؤية ثقافية واضحة تستوعب التغيير وتوجهه.وتحقيق ذلك يتطلب تكامل ثلاثة عناصر: تعليم يرسخ مهارات التفكير النقدي منذ المراحل المبكرة، وإعلام يوازن بين سرعة الخبر وعمق التحليل، ومجتمع يقدر التنوع باعتباره مصدر قوة لا تهديدا، وبهذه الأدوات يمكن أن نحول الثقافة السائلة من قوة مبددة إلى قوة بناءة، ومن خطر على الهوية إلى فرصة لتجديدها، فالموج سيظل يتحرك، والمواضيع ستتغير بسرعة، لكن امتلاك بوصلة قيمية واضحة يجعلنا قادرين على الإبحار بثقة، واختيار الوجهة وسط تيار لا يعرف السكون.