الرعاية الصحية القائمة على القيمة.. من التحديات إلى الحلول
السبت / 3 / جمادى الأولى / 1447 هـ - 21:38 - السبت 25 أكتوبر 2025 21:38
استمرارا للحديث حول نموذج الرعاية الصحية القائمة على القيمة (Value-Based Healthcare – VBH)، وبعد أن طرحت في المقال السابق أبرز الجدليات والتحديات التي واجهت هذا النموذج، أستعرض معكم اليوم، أهم الحلول التي تبنتها نظم الرعاية الصحية حول العالم لمعالجة تلك الإشكالات وتحقيق التوازن بين التكلفة والجودة:
أولا: أطر وطنية لقياس الجودة
جاءت الاستراتيجية الوطنية للجودة (National Quality Strategy – NQS) في الولايات المتحدة لتكون الإطار الوطني الذي يرسخ مبادئ الجودة والكفاءة في الرعاية الصحية، متوافقة في توجهها العام مع فلسفة «الرعاية القائمة على القيمة»، وقد أسهم هذا الإطار في توحيد المقاييس وربط الجودة بما تحققه من أثر صحي فعلي، مما وفر البيئة التنظيمية التي مهدت الطريق لتطبيق برامج الدفع مقابل القيمة لاحقا، وتحويل النموذج من فكرة نظرية إلى ممارسة واقعية.
ثانيا: الرعاية المتمحورة حول المريض
اعتمدت مؤسسات عديدة نموذج البيوت الطبية المتمحورة حول المريض (PCMH)، والذي يضع احتياجات الفرد وتفضيلاته في صميم الخطة العلاجية للمريض الذي لم يعد متلقيا سلبيا، بل شريكا في القرار، وهو ما انعكس إيجابا على الالتزام بالعلاج والنتائج الصحية على المدى الطويل.
ثالثا: تعديل المخاطر بعدالة
من أبرز التحديات في نموذج VBH تحقيق المقارنة المنصفة بين مقدمي الخدمات، خاصة حين تختلف درجة تعقيد الحالات المرضية التي يتعاملون معها. ولمعالجة هذا التحدي، طبقت نماذج متقدمة مثل نموذج الفئات الهرمية Hierarchical Condition Category ,HCC، الذي يضبط تقييم الأداء بناء على شدة المرض وتعقيد الحالة، وذلك لرفع كفاءة المقارنات وتقليل الانحياز لصالح المنشآت التي تتعامل مع حالات أبسط، لكنه كشف أيضا الحاجة إلى رقابة دقيقة لتفادي إساءة استخدام التصنيفات لأغراض مالية، وهو ما أبرز أهمية التوازن بين الإنصاف والحوكمة في تطبيق أي نظام قائم على القيمة.
رابعا: التركيز على النتائج طويلة المدى
لتفادي الانشغال بالنتائج قصيرة الأجل، تبنت بعض الأنظمة الصحية أدوات متقدمة مثل (PROMIS) و(PREMs) لقياس النتائج الصحية وتجارب المرضى على حد سواء. فالأولى تعنى بتتبع التحسن الصحي الفعلي للمريض في مجالات كالحركة، والنوم، والمزاج، والألم، بينما تركز الثانية على تجربته مع منظومة الرعاية من حيث التواصل، والرضا، وسهولة الوصول. والغاية هنا أن تصبح الرعاية مستدامة ومتمحورة حول التحسن الفعلي في حياة المريض ودوام صحته، لا مجرد نجاح الإجراء الطبي في لحظته الآنية.
خامسا: الشفافية والمساءلة
من التجارب اللافتة لي شخصيا في تعزيز المساءلة الصحية تجربة (Hospital Compar)، وهي منصة الكترونية طورت تحت إشراف وزارة الصحة الأمريكية، تتيح للجمهور الاطلاع على بيانات أداء المستشفيات في مؤشرات مثل معدلات الوفيات، وإعادة التنويم خلال 30 يوما، وزمن الانتظار في أقسام الطوارئ، وتجارب المرضى، وسلامة الرعاية. وتهدف المنصة إلى تمكين الأفراد من مقارنة المستشفيات واختيار مقدم الخدمة الأكثر جودة وموثوقية، مما عزز ثقافة الشفافية والمساءلة وحفز المستشفيات على تحسين أدائها بشكل مستمر. كما ألزمت الوزارة - من خلال إحدى وكالاتها الاتحادية - جميع المستشفيات المعتمدة، بما في ذلك الخاصة، برفع بيانات الجودة دوريا مقابل استمرار اعتمادها واستحقاقها للدفع الحكومي، حتى شملت المنصة أكثر من 90% من المستشفيات الأمريكية.
ختاما، تظهر هذه الحلول أن معالجة تحديات الرعاية القائمة على القيمة لا تقوم على أداة واحدة، بل على منظومة متكاملة تشمل الأطر التنظيمية، وتمكين المريض، وعدالة التقييم، وشفافية النتائج، والإنصاف في الوصول. وقد استغرق العالم عقدا من الزمن لينقل هذا النموذج من الفكرة النظرية إلى التطبيق العملي عبر تجارب ثرية بالدروس. ومع المضي قدما في مسار التحول الصحي في المملكة، تبقى هذه التجارب العالمية مصدرا ثريا يمكن الاستفادة منه، إذا ما أعيدت صياغتها بما يتناسب مع الواقع المحلي والخصوصية الوطنية، بهدف رفع الجودة وتقليل التكلفة.