الرأي

انطفاء المهد: حين تتراجع المواليد في أرض النمو

عبدالرحمن حسين فقيهي
في وطن كان الصغار فيه زينة البيوت، وصوت المهد فيه نشيد المستقبل، بدأت الأرقام اليوم تهمس بحقيقة مقلقة: انخفاض المواليد في السعودية.ظاهرة لم تعد مجرد رقم في جداول الإحصاء، بل مؤشر اجتماعي واقتصادي يستحق التأمل والبحث الجاد.بين الأمس واليومكانت الأسرة السعودية قبل عقود تبنى على مفهوم الامتداد والعائلة الكبيرة، حيث تعد كثرة الأبناء مصدر فخر وقوة. أما اليوم، فقد تغير المشهد؛ إذ انخفض معدل الخصوبة إلى نحو (2.7) مولود لكل امرأة سعودية، بعد أن كان يتجاوز (6 مواليد) في السبعينات، بينما تراجع المعدل الإجمالي إلى قرابة (2.0) مولود فقط عام 2023م.ورغم هذا الانخفاض الواضح، إلا أن المجتمع ما زال يحتفظ بقيم التلاحم الأسري، لكنه يواجه تحديات جديدة فرضتها التحولات الاقتصادية والاجتماعية المتسارعة.لماذا تراجع عدد المواليد؟الأسباب كثيرة ومتداخلة، لكنها تدور في فلك أربعة محاور رئيسة:
  1. التحولات الاقتصادية: ارتفاع تكاليف المعيشة والسكن والتعليم جعل من الإنجاب قرارا مدروسا لا عفويا، فالكثير من الأزواج يفضلون الاكتفاء بطفل أو اثنين لضمان جودة الحياة.
  2. التغير الاجتماعي: تأخر سن الزواج، ونظرة الأجيال الجديدة للأسرة المثالية، كلها عوامل أعادت تعريف مفهوم «الأسرة الكبيرة».
  3. الوعي الصحي وتنظيم الأسرة: بات الناس أكثر وعيا بوسائل تنظيم الحمل والتخطيط الأسري، مما ساهم في خفض المعدل العام للمواليد.
  4. غياب الحوافز والدعم الأسري الكافي: ما زالت بعض الأسر تجد صعوبة في الحصول على دعم فعال في الرعاية، والحضانة، وإجازات الأبوة والأمومة، وهي عوامل تؤثر في قرار الإنجاب.
انعكاسات الانخفاض على المستقبلانخفاض المواليد لا يقاس فقط بالأرقام، بل يترك أثرا بعيد المدى على البنية السكانية والنمو الاقتصادي والهوية المجتمعية.فكلما قل عدد الأطفال اليوم، قل عدد الشباب غدا، وتباطأ تجديد الدماء في سوق العمل. ومع مرور الوقت، ترتفع نسبة كبار السن، فيتحمل الاقتصاد تكاليف رعاية أكبر، بينما تتقلص قاعدة القوى العاملة المنتجة.إنها معادلة دقيقة بين الكم والكيف، فالتراجع الكبير في المواليد قد يفتح فجوة مستقبلية في التنمية البشرية إذا لم يدار بوعي واستباق.كيف يمكننا التصحيح؟المطلوب ليس العودة إلى أعداد كبيرة من الأبناء دون تخطيط، بل إلى توازن رشيد يحفظ استقرار المجتمع ونموه.ولتحقيق ذلك، يمكن النظر في جملة من الإجراءات، منها:
  • تقديم حوافز مالية وضريبية للأسر التي تنجب أكثر من طفل.
  • دعم الأم العاملة بساعات مرنة وإجازات أطول.
  • إنشاء دور حضانة ومراكز رعاية قريبة من أماكن العمل والسكن.
  • توعية المجتمع بأهمية استدامة النمو السكاني لتحقيق الأمن الاقتصادي والاجتماعي.
ختاما، إن تراجع المواليد ليس شأنا خاصا بالأسرة وحدها، بل هو قضية وطنية تمس مستقبل القوى العاملة، والتعليم، والاقتصاد، وحتى التوازن الثقافي والاجتماعي.وحين تنطفئ المهدات في البيوت، يتباطأ نبض الحياة في الأمة.فالمستقبل لا يبنى بالحجر وحده، بل بالإنسان الذي يولد ويربى وينمى.