الحضارة الحديثة: هل جذورها «يهودية - مسيحية» حقا؟
الخميس / 1 / جمادى الأولى / 1447 هـ - 01:39 - الخميس 23 أكتوبر 2025 01:39
صدر في يوم 16 سبتمبر/ أيلول 2025 تقرير لجنة تحقيق دولية مستقلة تابعة للأمم المتحدة United Nations Independent International Commission of Inquiry، وهو تقرير يؤكد ما سبق وتوصلت إليه تقارير منظمات حقوق الإنسان من ارتكاب إسرائيل جريمة الجرائم: الإبادة الجماعية Genocide، وذلك منذ بدأ العدوان على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وأنها إبادة تهدف إلى «القضاء» على الفلسطينيين كشعب. وبالرغم من كل التقارير التي تؤكد ارتكاب إسرائيل أبشع الجرائم، ما زال أنصار الصهيونية يرددون الادعاء أن على شعوب الغرب - وعلى الشعوب المسيحية عموما - مساندة إسرائيل مهما فعلت، لأنها تمثل «القيم اليهودية - المسيحية «Judeo-Christian values» التي قامت عليها الحضارة الحديثة، ولأن المسلمين هم «أعداء» الحضارة الحديثة الذين تجب محاربتهم في جميع الأحوال.وادعاء الصهيونية بأن محاربة أبناء منطقتنا واحتلال أرضهم وقتلهم هو «دفاع» عن الحضارة، ما هو سوى «صياغة حديثة» لادعاء الصليبيين أنهم كانوا يحاربون أبناء منطقتنا ويحتلون أرضهم ويقتلونهم «دفاعا» عن المسيحية: وقد ارتكب الصليبيون مذابح بشعة ضد المسلمين والمسيحيين الشرقيين. كما أن الادعاء بأن إسرائيل تمثل الحضارة الحديثة هو ادعاء يستخدم لابتزاز الغرب «ثقافيا» تماما كما تم ابتزازه «سياسيا» بقضية المحرقة اليهودية the holocaust.والواقع أن مصطلح «القيم اليهودية المسيحية «Judeo-Christian values» هو مصطلح لم يظهر سوى بعد الحرب العالمية الثانية، حتى يستخدم للتأكيد على مشاركة القيم الحضارية الحديثة ما بين اليهودية والمسيحية، واستبعاد المسلمين من أي قيم حضارية مشتركة مع العالم المسيحي. وهي مقولة تجد من يرددها في الغرب، ولا تجد من يفندها في الشرق!بل إننا نجد من بين المسلمين من يرددون القول إن الحضارة العصرية هي «حضارة كافرة»، وهم بذلك يؤكدون - دون وعي - ادعاءات الصهيونية بأن المسلمين هم أعداء الحضارة الحديثة!فكان لا بد من التوضيح للعالم - ولأنفسنا - أن المقولة السائدة في الغرب بأن الحضارة الحديثة جذورها يهودية - مسيحية Judeo-Christian هي مقولة تتناقض مع التاريخ، ومع العلم:وقد أسس المسلمون كثيرا من العلوم الكبرى التي نعرفها هذا اليوم: كعلم الكيمياء، وعلم البصريات، وعلم الاجتماع، كما طوروا بشكل جوهري علوما أخرى: كعلوم الطب، وعلوم الرياضيات، وعلم الفلك، إلخ.، بل إن المذهب العلمي ذاته - الذي هو أساس الحضارة الحديثة - هو نتاج الفكر والحضارة الإسلامية.والتاريخ يبين لنا أن الأوروبيين تعلموا في مراكز العلم والحضارة الإسلامية ومن ثم نقلوا ما تعلموه من فكر الحضارة الإسلامية وعلومها إلى الغرب... ولا يمكن لأحد إنكار أن أعلام الحضارة الإسلامية من المفكرين والفلاسفة والعلماء كابن رشد وابن خلدون والخوارزمي وابن سينا، والفارابي، والإمام ابن حزم، وابن حيان، وابن الهيثم، والبيروني، والرازي - وكثير غيرهم - كان لهم دور عظيم في التطور الفكري والعلمي للحضارة الغربية وإخراج أوروبا من ظلمات العصور الوسطى... وذلك ما تشهد به كتابات بعض من أهم مؤسسي عصر النهضة مثل روجر بيكون Roger Bacon وجون لوك John Locke، اللذين كان لهما تأثير على أهم مفكري عصر التنوير الأوروبي: روسو Jean-Jacques Rousseau، وفولتير Voltaire.وأي نظرة إلى جذور الحضارة الحديثة تبين أن تأثير ثقافة الإسلام على عصر النهضة الأوروبية هو تأثير طاغ ولا يمكن إنكاره، وأن الحضارة الحديثة لم تقم على أساس القيم اليهودية - المسيحية المشتركة... بل إن التاريخ يؤكد أنه كان هناك صراع شرس ما بين اليهودية والمسيحية في عصر النهضة الأوروبية: فقد حصلت مذابح لليهود pogroms في فترة عصر النهضة.. وقامت إنجلترا بطرد اليهود عام 1290م، وكذلك قامت فرنسا بطرد اليهود عدة مرات، أشهرها عام 1394م، وبالمثل فعلت إسبانيا والبرتغال: حيث قامتا بطرد اليهود عام 1492م وعام 1497م، وحصل الشيء ذاته في ألمانيا وإيطاليا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر... والتيار الفكري السائد في عصر النهضة كان معاديا بوضوح لليهود، وحتى مارتن لوثر Martin Luther، مؤسس أهم حركة للإصلاح المسيحي كتب في عام 1543م أطروحة معادية لليهود، بعنوان «عن اليهود وأكاذيبهم On the Jews and Their Lies».كل ذلك كان في مرحلة النهضة الأوروبية، فأين تلك القيم اليهودية - المسيحية المشتركة التي قامت عليها الحضارة الحديثة والتي يتكلمون عنها؟أما لو نظرنا إلى أسس الثقافة السائدة في عصرنا الحديث فسوف نجد أن كثيرا منها يتفق مع ثقافة الإسلام، وعلى سبيل المثال: كل من الثقافتين - الإسلامية والمعاصرة - تتفقان على احترام العقل، وكم نجد في القرآن آيات ترجع الإنسان إلى العقل، كالآيات التي جاء فيها قوله تعالى: (أفلا تعقلون، أفلا يتدبرون، لعلهم يفقهون، لعلهم يتفكرون، لآيات لأولي الألباب، لآيات لأولي النهى)، وبالمثل نجد في القرآن ترسيخا لمبدأ حرية الاعتقاد، كقوله تعالى: لا إكراه في الدين (256) البقرة، وقوله تعالى: ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتىٰ يكونوا مؤمنين (99) يونس. وكذلك نجد الحرص على أن تكون حياة الإنسان أساسها العلم: ولا تقف ما ليس لك به علم (36) الإسراء، ونجد الحرص على التوازن في الحياة: ألا تطغوا في الميزان (8) الرحمن، ونجد أهمية تعارف الشعوب وتواصلها: وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا (13) الحجرات.وكثير غيرها من أسس الثقافة العصرية نجدها في ثقافة الإسلام: كحقوق الإنسان، واحترام الكرامة الإنسانية، والاهتمام ببناء الفرد، والتكامل بين المبادئ التي يؤمن بها الإنسان وحياته اليومية، وبناء المجتمعات متعددة الثقافات والهويات، والاهتمام بالعدالة بصورها كافة: القانونية والاجتماعية والاقتصادية، إلخ، وجميعها أفكار ومبادئ أتى بها الإسلام نصا ومعنى منذ قرون وأصبحت هي المعيار الثقافي لعالمنا المعاصر.فلا يمكن إنكار أن ثقافة الإسلام كانت - ولا تزال - جزءا أصيلا من الحضارة المعاصرة، وأنه - باستثناء تدهور منظومة الأخلاق المتعلقة بالحياة الشخصية - فإن هناك تقاربا متزايدا ما بين الثقافة الحديثة وثقافة الإسلام: سواء من الناحية العلمية، أو الإدارية، أو السياسية، أو الفلسفية، أو الاقتصادية، أو غير ذلك.. فالحضارة الحديثة تتقارب بوضوح مع ثقافة الإسلام في نواح عدة، خاصة من ناحية المفاهيم الإنسانية، وبالأخص تتقارب مع ثقافة الإسلام في أهمية المبادئ الأخلاقية: وقد أصبحت الأخلاقيات محور اهتمام العالم المعاصر، ونحن نعيش في عالم متعطش إلى رؤية أخلاقية تكون بديلا لمنطق توازن القوى وطغيان المصالح المادية المتناحرة التي تحكم عالما يرفع شعارات أخلاقية دون مضمون، حتى فقد أكثر من ينادون بالأخلاق مصداقيتهم.وكما قال رسول الله ﷺ «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، فقد أكمل الإسلام مفهوم الأخلاق من مفهوم ينحصر في السلوك الشخصي إلى مفهوم يشمل حياتنا كلها: فأتى الإسلام بأخلاق العمل work ethic بقرون طويلة قبل أن تظهر أخلاق العمل البروتستانتية Protestant work ethic، وبالمثل أتى الإسلام بأخلاق العلم scientific ethic، وأخلاق الاقتصاد، وأخلاق الحرب، وغير ذلك من أخلاقيات أصبحنا نسميها علميا بالأخلاق التطبيقية applied ethics، وهي أخلاقيات أتي بها الإسلام قبل أربعة عشر قرنا، ولم تدركها الحضارة الحديثة سوى في السبعينيات من القرن الماضي!وقد أصبح عالمنا يدرك مدى أهمية الأخلاقيات في التجارة والسياسة والاقتصاد والتعليم والإعلام، وغيرها من مختلف جوانب النشاط البشري.. كما أصبح واضحا أنه ليس بالإمكان حل القضايا الكبرى: سواء كانت مشاكل البيئة أو نزع فتيل الصراعات أو وضع أسس التعاون الدولي - أو غير ذلك - من دون العمل في إطار أخلاقي.. فلا بد من وجود أرضية أخلاقية مشتركة تكون أساس التعاون ما بين مختلف الأمم، وهو ما تمت صياغته في مبادئ منظمات دولية كمنظمة العمل الدولية International Labor Organization، ومنظمة الصحة العالمية World Health Organization، ومنظمة الشفافية الدولية Transparency International، ومنظمات حقوق الإنسان، وغيرها من المنظمات الدولية.وحيث لا يتسع هذا المكان الضيق لتفصيل أكبر في هذا الموضوع، أكتفي بالقول إن ثقافة الإسلام لا بد لها أن تكون عصرية بحكم أن بعضا من أهم أساسياتها: كالعقل والعلم والأخلاق والواقعية والانفتاح على العالم، جميعها تضمن بقاءها ثقافة منفتحة ومتطورة ومتلائمة مع العصر: فلا يمكن أن تكون ثقافة الإسلام غير عصرية، لأنها عصرية في أساس تكوينها وصميم طبيعتها.وهناك أرضية مشتركة واسعة - وتزداد اتساعا - ما بين ثقافة الإسلام والحضارة الحديثة.. ولا ينكر ذلك إلا جاهل أو مكابر.وعلينا أن ندرك أن الحرب التي تشنها الحركة الصهيونية على العرب والمسلمين هي حرب فكرية - ثقافية كما أنها حرب سياسية - اقتصادية، وأن أحد أهم أهداف الحرب الفكرية - الثقافية هو إنكار وجود أي أرضية مشتركة ما بين ثقافة الإسلام والحضارة الحديثة.وعلينا أن نفكر جيدا في ما يقولونه عنا... وقبل ذلك علينا أن نفكر جيدا في ما نقوله نحن عن أنفسنا.