الرأي

بين الجعالة والزلة: حين يختبر الله صدق النور في قلب الإنسان

حمزة عبدالرحمن الحارثي
أحيانا يلقي الله في طريقنا جعالة لا تشبه عطايا الناس، منحة خفية تذيب الغبار عن الروح وتعيد ترتيب نبض القلب. تأتي في لحظة لا ننتظرها، وربما بعد تعب طويل، أو خوف، أو وجع ممتد. قد تكون تلك الجعالة نجاة حبيب من مرض خطير، أو نظرة رضا من والد في لحظة ضعف، أو حتى إحساسا غامرا بأن السماء تراك وتسمعك.

في تلك اللحظة تشعر أن الله لم ينسك، وأنه رغم كل ما فيك من أخطاء، ما زال يمنحك النور الذي يصلح قلبك قبل أن يصلح حياتك. لكن سرعان ما تختبر هذه الجعالة... فبعد النور، تأتي الزلة.

الجعالة: هدية النور التي تختبر الصدق

في الفقه، 'الجعالة' هي وعد بجائزة لمن ينجز عملا. وفي الروح، هي عطاء إلهي لمن ما زال قلبه حيا. هي تلك المكافأة التي لا تمنح على كمال الطاعة، بل على صدق العودة. ومن تأمل سنن الله في عباده، يدرك أن الجعالة ليست نهاية الطريق، بل بدايته.

فالذي يكرمك الله برؤيته في قلب أبيك المريض، أو بدعاء خرج من بين أنفاسه وهو على السرير الأبيض، ليس لأنك بلغت الكمال، بل لأنك ما زلت من المختارين للعناية. إنها رسالة من السماء تقول 'ما زلت أحبك، رغم عيوبك. وسأبقيك قريبا، حتى لو سقطت'.

الزلة: امتحان ما بعد النور

ولأن النور الحقيقي لا يقاس بلحظته بل بثباته، يأتي الامتحان سريعا: زلة، ضعف، خلوة، أو انكسار. قد تسقط بعد ساعات من لحظة السمو، فترى نفسك تعود لما وعدت أن تتركه. فتظن أن النور انطفأ، وأنك لا تستحق الجعالة. لكن الحقيقة أعمق من ذلك بكثير.

في منهج هندسة الإنسان، تعد هذه اللحظة من أهم مراحل 'إعادة المعايرة الداخلية'. فالزلة بعد النور لا تعني سقوطا، بل اهتزازا في توازن الوعي. الإنسان حين يرتقي فجأة، تحتاج روحه إلى وقت لتتأقلم مع مستوى النور الجديد. وكأن النفس تقول 'هل أنت صادق حقا في هذا الطريق؟ أم أن ما حدث كان انفعالا مؤقتا؟'

لهذا، تأتي الزلة لتعيد اختبار النية لا لتسقطها. ومن ينهض بعدها، يثبت أنه لم يكن يعيش الوهم، بل الحقيقة.

بين البر والابتلاء: حين يفتح الله لك بابا لا يرى

البر بالوالد في مرضه ليس مجرد فعل، بل لغة روحية عميقة. حين يراك والدك وأنت واقف عند رأسه، بعد خمس ساعات من جراحة طويلة، ويدعو لك في ضعفه، فذلك ليس مجرد حنان أب، بل إشعار سماوي بأن الله أراد أن يسمعك دعاء يغير مسار حياتك. إنه نوع من الجعالة الربانية، التي لا تقاس بالمال ولا المنصب، بل بالسكينة.

وفي اللحظة نفسها التي تشعر فيها أنك صرت أقرب إلى الله، قد تبتلى بخطأ يذكرك بأن الطريق ليس عن الكمال، بل عن الصدق في الرجوع. وهكذا يتداخل النور والزلة فيك، لا ليناقضاك، بل ليشكلا معمارك الإنساني الأصيل.

هندسة التناقض: كيف تبني النفس من ضعفها؟

في معجم هندسة الإنسان، لا يبنى الإنسان من لحظات الكمال، بل من لحظات الانكسار الصادق. فالنور الذي لا يختبر بالزلة، يظل هشا. والضعف الذي لا يحول إلى وعي، يتحول إلى جلد للنفس لا يورث إلا العجز.

المعادلة الروحية البسيطة تقول 'من عرف ضعفه، عرف ربه'. فالله لا يريد منك ألا تخطئ، بل يريد أن تدرك لحظة الخطأ وتعود إليه بصدق أكبر. إنه يربيك بالجعالة، ويطهرك بالزلة، ويرفعك حين تظن أنك سقطت. وهذا هو السر الأعظم في هندسة الروح: أن التناقضات ليست نهاية الطريق، بل الأداة التي يعيد الله بها تشكيلك.

ما وراء الضجيج: الهدوء الذي يأتي بعد البكاء

حين تضع رأسك على الوسادة بعد يوم طويل من الصراع بين الرجاء والذنب، لا تسمع سوى همس داخلي يقول لك 'أنت لست سيئا كما تظن، فقط متعب'. 'أخطأت؟ نعم، لكنك لم تبرد النور، بل زدت شوقك إليه'.

هذه هي الحقيقة التي تضيع وسط الضجيج الأخلاقي والرقابي في عالمنا الحديث: أن الإنسان ليس معصوما من الاضطراب، لكنه مسؤول عن أن يبقى مستشرفا للنور حتى في عتمته. وهنا يلتقي الفكر والوجدان، العلم والإيمان، الوعي والهشاشة.

الخاتمة: من الجعالة إلى الرسوخ

ما أجمل أن نفهم أن الجعالة ليست جائزة، بل رسالة. وأن الزلة ليست سقوطا، بل معراج من نوع آخر. فكل نور تمنح إياه، يختبر بقدر صدقك فيه، وكل ضعف تمر به، يحمل بذرة عودة جديدة إلى الله.

في النهاية، الإنسان لا يقاس بعدد سقطاته، بل بعدد المرات التي يعود فيها ليقول 'يا رب، لا تحرمني نورك بعد أن ذقته'.