الرأي

أنت طائرة إيرباص!

فؤاد بنجابي
قبل بضعة أسابيع من كتابتي لهذه المقالة كنت جالسا في إحدى جلساتي الاعتيادية مع الدكتور محمد العامري حين قال لي جملة ظلت تدور في ذهني كثيرا 'طائرة إيرباص، لو وقفت في المطار ستخسر الشركة المشغلة لها، ولو طارت دون حمولة أو بحمولة غير مجدية ستخسر أيضا، ولو طارت بحمولة مجدية ستكسب... أنت طائرة إيرباص!'

كانت تلك الكلمات أشبه بمرآة، جعلتني أرى الحياة من زاوية مختلفة تماما... ليست المسألة مجرد تشبيه لطيف بين الإنسان والطائرة، بل فلسفة كاملة عن معنى الحركة، وعن كيف يمكن للطاقة أن تكون عبئا إن لم توجه، أو تصبح قوة خلاقة إن وظفت في الاتجاه الصحيح... الطائرة، كالكائن الحي، لم تخلق لتبقى ساكنة... قيمتها لا تتحقق إلا حين ترتفع، حين تخترق الغيوم، حين تستخدم لأجل الغاية التي صنعت من أجلها... وكذلك الإنسان؛ إن وقف خسر، وإن تحرك بلا هدف استنزف نفسه، وإن تحرك بوعي نحو غاية واضحة، كسب الشيء الكثير.

الطائرة التي تقف في المطار دون أن تطير، مهما بدت جميلة ولامعة، هي مشروع خسارة صامتة... رسوم المواقف... الصيانة الدورية... التأمين... التآكل الداخلي... كلها تكاليف تستنزف بصمت بينما تبدو الطائرة 'آمنة' لكنها في الحقيقة تموت ببطء. كذلك الإنسان حين يتوقف عن العمل، عن التعلم، عن التجربة، حين يركن إلى الراحة بحجة الانتظار، أو الخوف، أو البحث عن لحظة مثالية للانطلاق، يبدأ في خسارة لا يراها أحد... الطاقة التي لا تستخدم تذبل، والقدرة التي لا تمارس تضعف، والحلم الذي لا يسعى نحوه يتلاشى... الوقوف لا يحميك كما تظن، بل يستهلكك من الداخل... كل يوم من التردد، كل ساعة من الجمود، تطفئ جزءا من محركك الداخلي... وكما أن الطائرة التي لا تطير تفقد صلاحيتها يوما بعد يوم، كذلك الإنسان الذي يختار السكون يفقد روحه شيئا فشيئا، لكن المفارقة أن الطيران نفسه لا يعني بالضرورة النجاة... فكم من طائرة حلقت في السماء، تستهلك وقودها، تدور في الهواء، ثم تعود إلى المطار كما غادرت، دون حمولة، دون وجهة، دون جدوى. تلك هي صورة النشاط الفارغ، الذي يرهق صاحبه دون أن يمنحه نتيجة. كثيرون اليوم يعيشون بهذه الطريقة... يتحركون كثيرا، يعملون بلا توقف، يمتلئ جدولهم بالمشاريع، لكنهم لا يعرفون إلى أين يذهبون. يظنون أن السرعة تعني التقدم، وأن الانشغال يعني الإنتاج، لكن الحقيقة أن الحركة بلا غاية تشبه الطيران في دائرة مغلقة. لا فرق بين من يقف في المطار ومن يطير بلا اتجاه؛ كلاهما في النهاية لا يصل.

الإنسان حين يعيش بلا هدف، يصبح كمن يشغل محركاته لمجرد سماع صوتها. ينهك نفسه في أعمال لا تضيف له شيئا، ويقيس نجاحه بعدد الاجتماعات لا بنتائجها، ويغرق في تفاصيل لا تصنع أثرا. هذا هو الإرهاق الحديث، حيث يتحول السعي ذاته إلى غاية، بدل أن يكون وسيلة لغاية أسمى. العمل بلا جدوى لا ينتج سوى التعب، والمثابرة العمياء لا تصنع إلا الخسارة المتكررة. إن الحياة ليست سباق سرعة، بل رحلة معنى. ليست عن 'كم تطير؟'، بل عن 'إلى أين تطير؟، ولماذا؟!'، وعندما تأتي اللحظة التي تحمل فيها الطائرة حمولة مجدية، يتغير كل شيء. تصبح الرحلة استثمارا لا تكلفة، وتتحول كل دقيقة في الجو إلى قيمة، وكل جهد إلى ربح. هذه هي الفلسفة العميقة التي قصدها الدكتور العامري، أن الجدوى هي الفاصل بين الطيران الخاسر والطيران المربح. في حياة الإنسان، 'الحمولة المجدية' قد تكون مشروعا، أو فكرة، أو رسالة، أو حتى نية صادقة. المهم أن تحمل في قلبك شيئا يستحق أن تطير من أجله. أن تربط طاقتك بهدف واضح، وجهدك بمعنى. حين تعرف لماذا تعمل، يصبح التعب مريحا، والجهد ممتعا، والخسارة جزءا من الطريق. أما حين تفقد 'لماذا؟'، تضيع 'كيف؟' وإلى أين؟'.

ليس المهم أن تمتلك محركات قوية، بل أن تعرف الاتجاه. ليست القوة وحدها هي ما يصنع الرحلة، بل البوصلة. كم من طائرة عظيمة سقطت لأنها لم تعرف طريقها، وكم من إنسان بسيط حلق عاليا لأنه امتلك وضوح الهدف. حين تعمل من أجل شيء أكبر منك، لا يعود الجهد عبئا، بل معنى. حين تملك غاية سامية، تصبح كل لحظة تعب خطوة إلى الأمام. وعندما تكون 'الحمولة مجدية'، فإن السماء نفسها تفتح أبوابها.

الحياة، في جوهرها، تشبه المطار والسماء. في المطار نحن ننتظر، نخطط، نخاف، نراجع، نجري الفحوصات الأخيرة قبل الإقلاع. وفي السماء نختبر الحقيقة: الاتجاه، الرياح، الوقود، التوازن. أحيانا نهبط اضطراريا، وأحيانا نحلق بسلاسة، وأحيانا نغير المسار. لكن في النهاية، كل رحلة تحمل دروسها الخاصة. الإنسان يمر بين مطارات التردد وسماء الإنجاز، بين محطات الخوف ولحظات الارتفاع. والفرق بين من ينجو ومن يتساقط ليس في عدد الأجنحة، بل في شجاعة الإقلاع أولا، وفي وضوح الوجهة ثانيا.

إن الحكمة العميقة في كلام الدكتور العامري ليست فقط أن 'الوقوف خسارة' والتحرك ضرورة'، بل أن الجدوى هي روح الحركة. أن تسأل نفسك قبل أن تبدأ أي عمل: ما الحمولة التي أحملها؟ وما القيمة التي أريد أن أصل بها؟ لأنك حين تعرف الإجابة، تصبح الرحلة أكثر استقرارا، والعاصفة أقل خوفا، والتعب أكثر معنى.

الإنسان كطائرة إيرباص تماما: باهظة الثمن، عالية الكفاءة، مهيأة للطيران لمسافات طويلة، لكنها تحتاج إلى خطة طيران، وجهة محددة، ومراقبة مستمرة. كل تأخير في الإقلاع يكلف، وكل انحراف في المسار يستهلك، وكل توقف بلا صيانة يضعفها. لذلك، لا تخف من الإقلاع، بل خف من أن تبقى على الأرض. لا تندم على وقود أنفقته في طريق واضح، بل على وقود أهدر في دوران فارغ.

القيمة ليست في أن تتحرك، بل في أن تتحرك نحو ما يستحق. الطيران لا يصنع المجد، لكن المعنى هو الذي يمنح الرحلة قيمتها. وحين تدرك ذلك، تفهم أن الخسارة الحقيقية ليست في سقوط الطائرة، بل في قرارها ألا تقلع أصلا.