«سيولة النكتة... من مدرسة فرانكفورت إلى م.ت.ج»
الاثنين / 28 / ربيع الثاني / 1447 هـ - 21:02 - الاثنين 20 أكتوبر 2025 21:02
بادئ ذي بدء، سأشرح المختصر الجديد الذي اخترعته للتو وهو (م. ت. ج) وهي (مواقع التواصل الاجتماعي) عموما، في دهاليز الفكر الأوروبي، جلس مفكرو مدرسة فرانكفورت يكتبون عن الحداثة السائلة والتشيؤ والانفصال عن المعنى. لم يكونوا يعلمون أن حفيدهم الروحي سيولد بعد عقود، ليس في مكتبة أكاديمية، بل في حساب «نكت بايخة» على (م. ت. ج)، حيث تختفي النكتة بعد ثانيتين، ويسحب عليها كما يسحب على تحديثات الخصوصية في التطبيقات.
زمان، كانت النكتة تحفر في الذاكرة. نكتة «مرة واحد صعيدي.، مرة واحد قصيمي» كانت تحكى في الأفراح، في العزاء، في الديوانيات والاستراحات، في الطابور الصباحي، وتنجو من كل سياقات الزمان والمكان بلا خجل. الآن؟ النكتة لا تعيش أكثر من 24 ساعة - بالكثير - إذا ما تحولت إلى ميم ثم تطوى وتنسى، كأنها لم تكن. إنها نكتة سائلة، تنساب من ذاكرة الجمهور كما ينساب شحن هاتفك الجوال من 100% إلى 3% بعد فتح (م. ت. ج)
مدرسة فرانكفورت تحدثت عن «تسييل الثقافة» وتحول المعاني إلى سلع قابلة للاستهلاك السريع.
الآن، نحن في زمن «تسييل النكتة»: تستهلك بسرعة، تنسى بسرعة وتستبدل فورا بأخرى، وكأن النكتة لم يكن هدفها الضحك المستمر بل الضحك الوقتي المؤقت في سبيل حث الآخرين على استخفاف دمهم لنكتة أخرى!
في السابق، كانت النكتة مثل المسرحية: تبنى لها مقدمة، حبكة، نهايات ملتوية. لدرجة أن إخواننا المصريين اخترعوا فاصلا موسيقا خاصا يفصل بين نكتة وأخرى كلنا يحفظ نغمتها والآن وهو يقرأ المقال يرددها في داخله. وكان الجمهور يضحك بهدوء فكري، كمن يشرب نكتة معتقة من نوع «عادل إمام في مدرسة المشاغبين».
أما اليوم، فالنكتة مثل «الستوري»: سريعة، لحظية، بلا سياق، ومبرمجة لتنسى نفسها. وحتى لو ذكرتها لن تذكرها لأحد لأنها اقتحمت حياتهم من خلال (م. ت. ج).
المشكلة أن الجمهور صار مدمنا على الجديد. لا يعجبه شيء طالما شاهده مرتين. يقول:
– سمعت النكتة هذه؟
– نعم، قديمة.
- قديمة؟ هي من ثلاث ساعات فقط!
في زمن السيولة، النكتة القديمة هي كل نكتة لم تولد قبل خمس دقائق. في هذا الزمن، أصبحت النكتة كالنص على موقع اكس: تبدأ سريعة، تنتهي أسرع، والجمهور لا يتذكر شيئا، لكنه «ينبسط مؤقتا». مثل جرعة لا قيمة لها، متأكد أنكم نسيتم ماذا تعني (م. ت. ج) لأننا في زمن الذاكرة السائلة!