الإنهاك والانتهاك
الخميس / 24 / ربيع الثاني / 1447 هـ - 06:07 - الخميس 16 أكتوبر 2025 06:07
لماذا أصبح الإنهاك أسلوبا للحياة وانتهاك الحقوق الشخصية بطرق لا إنسانية؟للإجابة عن هذا التساؤل دعونا نشخص النمط السائد على عصر الرقمنة والتواصل المادي المحض، والذي أطلق عليه مؤخرا «جيل الإنهاك» حتى أصبح يعاني ألما نفسيا وجسديا تسبب في إثارة آراء المختصين بمجال علم النفس، ورغم أن التكنولوجيا العصرية منحت الإنسان أدوات التيسير إلا أنها عقدت عليه حياته وجعلته يعيش في حالة من اليقظة والانتباه الكامل مستجيبا بطريقة لا إرادية لمطالب المنتهكين من أرباب الأعمال واللاهثين وراء المال.أظهرت دراسات الجمعية الأمريكية لعلم النفس عام 2023 أن أكثر من 60% من الشباب بين 18 و35 عاما يعانون من أعراض الاحتراق النفسي ناتجة عن الانحباس ضمن دائرة ثقافة الأداء المستمر، حيث لم يعد النجاح خيارا مطلقا بل واجب يومي مقيد يقاس بمعدلات الإنجازات القصوى، الأمر الذي أدى لتنامي الشعور بالإحباط خلال مناسبات التكريم بالتميز.الطلب المستدام لتحقيق الحالة الإنتاجية على حساب المعنوية أحدث ما تسميه منظمة الصحة العالمية «حالة الاستنفار النفسي» وهي عدم توقف الدماغ عن استقبال المحفزات، فالموظف يتلقى رسائل عمل دون حدود زمنية ضمن المؤشرات التنافسية المتصاعدة المحملة بالتلميح والتلويح بالتسريح أو عدم الحصول على الزيادة السنوية «البونس» آخر العام المشروطة بتحقيق الأهداف بنسب عالية يصعب على الموظف تحقيقها أو الوصول لها.وتشير دراسة أجرتها جامعة ستانفورد عام 2022 إلى أن الاستخدام المفرط للتقنيات الرقمية وتنبيهات الأعمال يزيد من مستويات التوتر بنسبة تصل إلى 35% مقارنة بمن يخصصون وقتا منتظما للانفصال عن الشاشات.في الماضي كان مفهوم النجاح مرتبطا بالاستقرار والرضا أما اليوم فقد تحول لسباق لا نهاية له مع تغير للمفاهيم، فالراحة تعتبر ضعفا، والنوم الكافي ينظر إليه كترف. فأصبح الفرد متجردا من الإنسانية قرين الآلة مستهلكا للطاقة يعيش في حلقة مفرغة لمتابعة أهداف متجددة لا تمنحه الشعور بالاكتمال، وكأنما نعود للمدرسة الكلاسيكية القديمة التي جعلت من الموظف مصدرا للربح دونما أي مراعاة لمشاعره وحقوقه الآدمية. وعلم النفس الحديث يشير إلى أن هذا النمط يؤدي إلى ما يعرف بـ»قلق الإنجاز»، وهو اضطراب يتجلى في شعور دائم بأن ما نقوم به ليس كافيا وغير مقدر من الغير.ويرى خبراء علم النفس أن الخطوة الأولى تبدأ بإعادة تعريف النجاح ذاته بأهمية إدراك أن التوازن بين العمل والراحة ليس رفاهية بل ضرورة صحية وحتمية بحسب ما نصحت به منظمة الصحة العالمية بتطبيق آلية «الفصل الرقمي» أي تخصيص أوقات خالية من التكنولوجيا والعملية الإنتاجية.برأيي أن جيل الإنهاك ظهر نتيجة لانعكاس الانتهاك الجائر بتفشي ثقافة إعلاء وتيرة التسارع على حساب معيار التوازن، ونتجت عنه ضغوط الحياة المسببة بانتشار العلل النفسية التي تؤدي بالفرد للأمراض السيكوسوماتية، أي النفس جسمية، والتي أساسها نفسي، تنعكس بردود أفعال سلبية على الجسم.وأظهرت دراسة أجرتها جامعة أكسفورد عام 2023 أن ممارسة التأمل والاستبصار في المحيط الكوني لمدة 20 دقيقة يوميا تقلل من مستويات هرمون الكورتيزول المرتبط بالتوتر بنسبة 30%، وهو ما أمرنا به رب العزة والجلال في محكم تنزيله بـ«أفلا يتفكرون.. أفلا يتدبرون.. أفلا يبصرون».لعل التحدي الحقيقي في مستقبل الأعمال لن يكون في زيادة الإنتاجية بل في حماية الإنسان من الإنهاك المتتابع، وكما يقول علماء النفس: الراحة ليست توقفا عن الحياة بل وسيلة لمواصلة العيش بوعي وصحة لتعزيز ثقافة جودة الحياة المأمولة وتحقيق الأمان والاتزان لحماية الإنسان.Yos123Omar@