الرأي

سياق الاتفاق والتحولات الأخيرة

عبداللطيف محمد الحميدان
يبدو أن الاتفاق الذي توصل إليه الجانبان الإسرائيلي وحماس على المرحلة الأولى من خطة وقف النار وتبادل الأسرى والانسحاب الجزئي من غزة كتسوية اضطرارية أملتها كلفة حرب طاحنة وضغوط دولية وإقليمية متراكمة، لكنه لا يزال أقرب إلى معادلة تجربة منه إلى نهاية للصراع، إذ تختبر بنوده القابلة للقياس التهدئة وتحرير الرهائن والأسرى وإدخال المساعدات وتراجع القوات إلى خطوط متفق عليها، وقدرة كل طرف على تحمل أثمان سياسية وأمنية فورية مقابل مكاسب استراتيجية أبعد مدى؛ فمصادر متعددة تتحدث عن نافذة زمنية ضيقة لتحرير من تبقى من الرهائن الأحياء وتسليم جثامين المتوفين خلال 72 ساعة مع أرقام مرجعية تتراوح بين عشرات الرهائن الأحياء لدى حماس، وقوائم تبادل تضم نحو ألفي أسير فلسطيني وفتح متدرج للمعابر، وتدفقات إنسانية كبيرة.كلها عناصر تنطوي على مخاطر تعثر التنفيذ عند أول خرق أو اختلاف على الأسماء وآليات التسليم والجدولة اللوجستية، خصوصا أن شبكات الأنفاق وبقية البنية القتالية في غزة لم تحسم عسكريا بالكامل كما تقر اعترافات إسرائيلية، ما يجعل كل خطوة إنسانية أو أمنية رهينة بميزان ردع هش يمكن أن يختل سريعا إذا قرأ أحد الطرفين تنازلاته على أنها إضعاف لبنيته أو مس بشرعيته أمام جمهوره الداخلي الذي أنهكته حرب سجلت أرقاما مهولة في الضحايا والدمار، بينما تتقدم في الخلفية ترتيبات ميدانية منها إعادة انتشار إسرائيلي إلى خطوط متفق عليها واستئناف واسع لدخول قوافل الإغاثة بإشراف أممي ومشاركة مصرية وقطرية وتركية وأميركية في غرف تنسيق ومراقبة، وهي ترتيبات تمنح الاتفاق غطاء تشغيليا ضروريا لكنها لا تزيل السؤال الأصعب «من يحكم غزة وكيف تعاد هيكلة السلطة والأمن والاقتصاد؟» بحيث لا تعود الحرب في أول أزمة تمويل أو احتكاك أمني، ذلك أن الاتفاق مهما تحسنت شروطه التنفيذية لن يملك معنى استراتيجيا إن ظل معزولا عن المسار السياسي الأوسع الذي أعاد مؤتمر حل الدولتين صياغته في نيويورك عبر إعلان نيويورك الذي قادته السعودية بمساندة فرنسية، الذي قنن خطوات ملموسة ومؤطرة زمنيا ولا رجعة عنها نحو تسوية على أساس حدود 1967 قبل أن تمنحه الجمعية العامة للأمم المتحدة غطاء كاسحا بأغلبية 142 دولة مقابل 10 معارضات و12 امتناعا، في رسالة مزدوجة تقول عمليا إن أي هدنة لا تضع لبنة لدولة فلسطينية متصلة قابلة للحياة لن تصمد أخلاقيا ولا مؤسسيا.من هنا فإن اختبار الاتفاق الجاري لا يقتصر على مدى التزام إسرائيل وحماس ببنوده التقنية بل على قدرتهما ومعهما الوسطاء على مواءمة تفاصيل المرحلة الأولى مع جدول سياسي أممي واضح المعالم والآجال، لأن موثوقية التنفيذ من دون مرجعية سياسية جامعة ثبت تاريخيا أنها تتآكل بسرعة وتغري اللاعبين المخربين بملء الفراغ بالعنف والتصعيد، فيما تشير قراءة اللحظة إلى أن الولايات المتحدة رغم رعايتها العملية لا تزال متحفظة على الإطار الأممي بما فيه من إلزامات دولة فلسطينية، الأمر الذي يفتح فجوة بين رعاية أمنية أميركية ومظلة شرعية دولية أممية، وهي فجوة قد تتسع أو تضيق بحسب الأداء الميداني وميزان الضغوط والضمانات المتبادلة خلال الأسابيع الأولى الحساسة من التطبيق.في موازاة ذلك برزت السعودية كلاعب مرجح يمكنه تعظيم فرص النجاح وتقليص المخاطر إذا أحسن تفعيل ثلاث رافعات متكاملة: الرافعة الدبلوماسية بوصفها شريكا في رعاية مسار الدولتين ومرجعية عربية قادرة على تحويل إعلان نيويورك إلى معيار يحاسب عليه كل خرق أو تلاعب بالجدول الزمني، والرافعة المالية التنموية بربط تمويل الإغاثة وإعادة الإعمار والإسناد المؤسسي للسلطة الفلسطينية بمؤشرات امتثال قابلة للقياس تمنع تسرب الموارد إلى اقتصاد الحرب وتحولها إلى رأسمال سياسي لبناء مؤسسات الحوكمة والخدمات، والرافعة السياسية الاستراتيجية بضبط إيقاع أي مسار تطبيع مع إسرائيل على إيقاع التقدم الحقيقي نحو الدولة الفلسطينية بما يحول جزرة التطبيع إلى ضمانة تنفيذية لا مكافأة مجانية.لقد رحبت الرياض بالاتفاق بوصفه خطوة تمهد لسلام عادل وشامل يشترط حل الدولتين، وشاركت مع عواصم عربية وإسلامية ودولية في الدفع نحو ترتيبات انتقالية تشمل تسليم إدارة غزة لسلطة فلسطينية مؤهلة مدعومة بآليات مراقبة وتمويل، ما يمنحها مكانة الضامن العربي القادر على التنسيق بين المانحين وتوحيد شروطهم، وعلى مخاطبة الرأي العام الفلسطيني والعربي بخطاب يوازن بين الإغاثة الفورية والكرامة السياسية طويلة الأمد، ومع ذلك فإن السعودية تعمل من خارج ساحة الاشتباك المباشر وتعتمد على نفوذ دبلوماسي واقتصادي أكثر من اعتمادها على نفوذ أمني، وتحتاج إلى إدارة حساسة لتوقعات الشارع العربي كي لا تترجم أي مرونة تكتيكية باعتبارها تنازلا استراتيجيا كما يتعين عليها تحصين مشروطية التمويل من التسييس أو الابتزاز المتبادل بين الفصائل والبيروقراطيات، وأن توفق بين متطلبات سرعة التعافي الإنساني وتعقيدات الإصلاح المؤسسي التي تتطلب وقتا وبيئة أمنية مستقرة، في المحصلة تتوزع التهديدات الرئيسية على أربعة محاور: خطر الانهيار السريع بفعل خروقات موضعية تتحول إلى ذريعة لاستئناف النار، وخطر الفراغ الحوكمي الذي يجر تنافسا داخليا فلسطينيا أو ازدواجية سلطات تنتج اقتصاد ظل وفسادا وتآكلا للشرعية، وخطر السلام الأداتي الذي يستخدم لالتقاط الأنفاس دون التزام بمسار الدولة، وخطر العدوى الإقليمية إذا اختارت قوى مرتبطة بالملف توسيع رقعة التصعيد من لبنان وسواه.وفي المقابل، تبرز فرص واقعية إن أحسن استثمارها ترجمة فورية لمعاناة المدنيين إلى تحسن ملموس في الغذاء والدواء والطاقة والسكن وبناء آليات مراقبة مختلطة أممية إقليمية تربط كل تقدم ميداني بتقدم سياسي وفق إعلان نيويورك وإعادة تموضع تدريجي للدور الأميركي من مدير أزمة إلى ضامن تنفيذ منسجم مع المظلة الأممية بدل أن يكون بديلا عنها، وتمكين السلطة الفلسطينية عبر برامج إصلاح وتمكين أمني مدني تجعلها طرفا قابلا لتحمل المسؤولية.إن السيناريو الأكثر رجحانا على المدى القريب إذا صمدت الأيام الحرجة الأولى هو هدنة ذات حواف خشنة تتحرك ببطء بين إنجازات إنسانية ومقايضات أسرى وانسحابات موضعية تختبر خلالها قدرة الوسطاء على تحويل كل خطوة تشغيلية إلى لبنة في المسار السياسي الأممي، أما الفشل فمؤشراته واضحة منذ الآن، تعطيل متعمد لقوائم التبادل وتسييس للممرات الإنسانية، وإحياء شبكات العنف الموازي أو تنكر علني لالتزامات إعلان نيويورك، وعندها ستتحول الهدنة إلى هدنة متقطعة تبدد رأس المال الدبلوماسي وتعيد الجميع إلى معادلة النيران العبثية؛ لذلك فإن معيار النجاح ليس توقيع الاتفاق بل بناء مصداقية تطبيقه تحت سقف دولي واضح يسمى اليوم إعلان نيويورك مع ضمانات عربية دولية صلبة وشبكة حوافز وعقوبات مضبوطة، وفي هذا الامتحان تمتلك السعودية إذا أحسنت توظيف أدواتها ببراغماتية صارمة فرصة نادرة لتقليص مساحة العبث وإجبار الأطراف على تحويل الهدنة من توقف تكتيكي للنار إلى عتبة عملية على طريق الدولة الفلسطينية، وهو ما يفسر لماذا تتقاطع رحلة الأيام الـ72 الحالية مع الـ15 شهرا التي يتطلع إليها المسار الأممي، إما أن يصبحا خطا واحدا نحو تسوية قابلة للحياة أو تتباعد الإيقاعات ويطغى ضجيج الحرب على وعود السلام.alatif1969@