الرأي

صناعة المؤتمرات.. من الفعاليات التقليدية إلى صناعة اقتصادية ومعرفية

عبدالرحمن حسين القحطاني
في السنوات الأخيرة، لم تعد المؤتمرات مجرد تجمعات مهنية أو مناسبات بروتوكولية تنظم في قاعات مغلقة وتنتهي بانتهاء الجلسات، بل أصبحت صناعة متكاملة تلعب دورا حيويا في الاقتصاد، والتنمية، ونقل المعرفة، وبناء السمعة الوطنية والدولية. إنها صناعة تنبض بالحركة، وتجمع في تفاصيلها بين الدقة التنظيمية، والابتكار التقني، والرؤية الاستراتيجية.صناعة تتجاوز التوقعاتفي العرف القديم، كان ينظر إلى المؤتمرات كفعاليات محدودة التأثير، مقتصرة على الحضور الفعلي، ومخصصة لفئات ضيقة من المتخصصين. أما اليوم، فقد تحولت المؤتمرات إلى منصات عالمية تفاعلية تتجاوز حدود الجغرافيا، وتستقطب جمهورا واسعا من المهتمين من مختلف أنحاء العالم، سواء بالحضور الشخصي أو عبر تقنيات البث الحي والمنصات الرقمية.وراء كل مؤتمر ناجح تقف منظومة ضخمة من القطاعات المترابطة: شركات تنظيم الفعاليات، والفنادق، وشركات النقل، والمطاعم، ومراكز الترجمة، والتقنيات السمعية والبصرية، بالإضافة إلى فرق التسويق، والإعلام، والإدارة. وكل ذلك يجعل من تنظيم مؤتمر كبير أشبه بإدارة مشروع وطني مصغر، تتداخل فيه الخبرات وتتكامل فيه التفاصيل.بين العائد الاقتصادي والقيمة المعرفيةأحد أبرز أوجه صناعة المؤتمرات هو دورها في تحفيز الاقتصاد المحلي. فعندما يعقد مؤتمر دولي في مدينة ما، فإن مئات وربما آلاف الزوار يفدون إليها، ما يعني إشغالا للفنادق، ونشاطا في حركة النقل، وإنفاقا في الأسواق، واستفادة مباشرة للقطاعات الخدمية. بل إن بعض الدول باتت تبني استراتيجياتها السياحية على ما يعرف بـ'سياحة المؤتمرات'، وهي التي تستهدف استقطاب الزوار من خلال فعاليات مهنية وعلمية وثقافية.لكن الأثر لا يتوقف عند الجانب المالي فقط، فالقيمة المعرفية التي تقدمها المؤتمرات لا تقل أهمية. إنها نافذة لتبادل الخبرات، ومسرح لعرض الأبحاث، ومنصة لبناء الشراكات، وملتقى للعقول التي تصنع القرار وترسم ملامح المستقبل. يكفي أن نشير إلى أن العديد من المبادرات الكبرى، والشراكات الدولية، بدأت كفكرة عابرة في ردهات مؤتمر، ثم تحولت إلى مشاريع مؤثرة على الأرض.صناعة تحتاج إلى بنية ودعمنجاح أي مدينة أو دولة في استضافة مؤتمرات عالمية ليس أمرا عشوائيا، بل يعتمد على توفر بنية تحتية قوية، تبدأ من وجود مراكز مؤتمرات متطورة، وشبكات مواصلات مرنة، وخدمات ضيافة عالية الجودة، ولا تنتهي عند الكفاءات البشرية المؤهلة. كما أن الدعم الحكومي والتشريعي، وسرعة إصدار التأشيرات، وتوفر البيئة التنظيمية، جميعها عوامل تلعب دورا حاسما في جعل المدينة وجهة جاذبة لصناعة المؤتمرات. وتتنافس اليوم العديد من العواصم العالمية في هذا المجال، حيث تسعى إلى استقطاب المؤتمرات الكبرى، لما لها من تأثير مباشر في تعزيز مكانتها الدولية. ومن اللافت أن هذه المؤتمرات لا تعود بالنفع فقط على الجهات المنظمة، بل تعزز أيضا الحضور العالمي للبلد المضيف، وتساهم في بناء صورته الذهنية كمركز إقليمي أو دولي في مجال ما.ما بعد الجائحة: فرص رقمية جديدةلقد شكلت جائحة كورونا تحديا كبيرا لصناعة المؤتمرات، بعد أن توقفت معظم الفعاليات الحضورية في مختلف أنحاء العالم. لكن هذا التحدي سرعان ما تحول إلى فرصة، إذ شهدنا ولادة نماذج جديدة للمؤتمرات الهجينة، التي تجمع بين الحضور الفعلي والتفاعل الرقمي. هذه النماذج سمحت بمرونة أكبر، وتوسيع قاعدة المشاركين، وتقليل التكاليف، ما فتح الباب أمام مرحلة جديدة من الابتكار في هذا المجال.وها نحن اليوم أمام واقع مختلف، أصبح فيه المؤتمر لا يقتصر على الحاضرين في القاعة، بل يمتد إلى كل من يمتلك جهازا ذكيا واتصالا بالإنترنت. وهذا التحول الرقمي لم يعد خيارا، بل ضرورة لاستمرار النمو والتوسع في هذه الصناعة.مستقبل واعد وتحديات مستمرةرغم التوسع الكبير، تظل صناعة المؤتمرات تواجه تحديات مستمرة، أبرزها المنافسة العالمية، وارتفاع التكاليف، وضرورة الالتزام بالاستدامة البيئية، إضافة إلى التغير المستمر في تفضيلات الجمهور، واحتياجاته التقنية والمحتوى.ومع ذلك، فإن المستقبل يبدو واعدا، خاصة في الدول التي بدأت تستثمر بذكاء في هذا القطاع، من خلال بناء مراكز مؤتمرات حديثة، وتدريب الكفاءات، وتبني السياسات الداعمة. فصناعة المؤتمرات اليوم لم تعد ترفا، بل خيار استراتيجي لأي دولة تسعى للريادة، ولأي مؤسسة تطمح للتأثير.ختاما، في عالم تزداد فيه الحاجة للتواصل والتعاون وتبادل المعرفة، تبقى المؤتمرات واحدة من أهم أدوات التأثير والتمكين. ومن خلال صناعة مؤتمرات قوية، قادرة على الجمع بين الجودة التنظيمية، والعمق المعرفي، والبعد الإنساني، يمكن أن نصنع ليس فقط فعاليات ناجحة، بل فرصا حقيقية لتقدم المجتمعات وازدهارها.