الرأي

صراع الفيلة وقصص الوحوش

خالد العويجان
ابتداع الحروب سهل جدا، الصعب هو الخروج منها. في الغالب ما تبدأ برصاصة، وتنتهي عند المقابر، والبحث عن أشلاء وجثث هامدة. الراحلون لا يشعرون بالنهايات، ولا يسمعون صرخات الأمهات والأطفال والشيوخ، ولا أصوات البلدوزرات التي قد تنتشلهم من تحت الأنقاض.في المشهد العام الذي أنتجه إيقاف الحرب على قطاع غزة برز بعض من المواقف الغامضة. أهمها الآلة الإعلامية التي أخذت على عاتقها التسويق للانتصار لدى الطرفين.رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خرج مخاطبا الرأي العام مدعيا النصر، وتحقيق وعوده في إنهاء ملف الأسرى. وهو يكذب، ويعلم أنه يكذب، والشارع الإسرائيلي يعلم أنه يكذب.في المقابل ماذا عن حركة حماس؟ لقد اتخذت أسلوبا دعائيا مختلفا، يعتمد على المتعاطفين معها. إذ تردد شريحة من قواعدها الشعبية؛ أن حماس حققت انتصارا معنويا أكثر من كونه عسكريا. كيف؟ من خلال الترويج بأنها تمكنت من إعادة القضية الفلسطينية للساحة الدولية، وأكسبتها تعاطفا شعبيا عالميا، تحول لجبهة ضغط ضد تل أبيب. وهذا غير صحيح. الرواية كاذبة. الجميع يعلم، أن الكل يكذب على الكل.إذن ما الحقيقة؟ فيما يخص إسرائيل؛ أولا: نتنياهو أوقف الحرب مرغما؛ وهذا له أسبابه المرتبطة برغبة الرئيس ترامب، الساعي لتقديم نفسه كرجل سلام، والدليل ترديده على الدوام «أوقفت سبعة حروب منذ بداية ولايتي». ثانيا: لم يستطع رئيس الحكومة الإسرائيلي مواصلة مجابهة الشارع، الذي كشف زيف أسطورة أن بلاده، تشكل قوة ردع لا تهزم، بناء على التفوق العسكري؛ والتقدم التكنولوجي. في نهاية الأمر اكتشف الإسرائيليون أن تلك كذبة صدقوها، وانجلت ضبابيتها في موقفين، ما هما؟ أحداث 7 أكتوبر 2023. وهنا تنتفي عبارة نتنياهو حين قال عقب تلك الحادثة التي تعد إهانة لإسرائيل، في محاولة منه لتقليل وقع الصدمة «مجرد بضعة عرب يرتدون شبشب، يحملون كلاشينكوف». هذا الموقف الأول.الثاني: إدراك المجتمع الإسرائيلي أن موافقة حركة حماس على إطلاق الأسرى، الأحياء منهم والأموات، كان بناء على أوامر الرئيس الأمريكي، وليس لرئيس الحكومة الذي لم يفِ بوعوده، أدنى علاقة بالأمر.فيما يخص حقيقة حماس، فقد وجدت نفسها أمام خيارين: الخروج من المشهد بكرامة، أو بقوة السلاح. وهنا تتبخر مفاهيم أيديولوجيتها الدينية والسياسية، التي نبعت منها فكرة المقاومة؛ واتضح أنها عبارة عن أرضية للمتاجرة بالقضية الفلسطينية.أتصور أنه من باب تصويب الأمور، يجب القول إن تعاطف العالم «سياسيا وشعبيا» مع فلسطين كقضية جامعة وليست مجتزأة بقطاع غزة، لم تسهم به الحركة قيد أنملة، إنما هو نتيجة جهد بذلته المملكة العربية السعودية بمشاركة من فرنسا، وهي - أي الرياض - لم تدع فرصة في شتى بقاع الأرض، إلا واستغلتها لإعادة الملف الفلسطيني للواجهة، ووضعته على طاولة الأمم المتحدة والمنظمات العالمية، وتجاوزت ذلك الأمر، بإقناع أكثر من نصف العالم بعدالة قضية فلسطين، وعلى هذا الأساس، خرج المتعاطفون مع القضية في عواصم العالم، بناء على استشعار الشعوب، قبول حكوماتها للرأي السعودي.أعتقد أن استغفال المجتمعات بادعاء الانتصار الكاذب من قبل الجانبين، وإنكار وجحود مواقف الآخرين - وأعني بهذا الصدد؛ كما وقف ترامب موقفا يحسب له مع إسرائيل بإيقاف الحرب وإعادة الأسرى، يسجل للسعودية رفعها الصوت في المحافل الدولية دفاعا عن الفلسطينيين والمطالبة بحقوقهم المشروعة -، هو أدنى صور السقوط الأخلاقي والإنساني، الذي لا يمكن علاجه، بالأرواح المزهقة، والمشردين، والباحثين عن رغيف خبز، لترميم الأجساد المنهكة، التي ليس لها في تناحر الجبابرة؛ لا ناقة ولا جمل.إن فكرة السلام في الشرق الأوسط التي فرضها ترامب، لم تمنح صاحب الحق حقه، ولم تردع المغتصب عن إجرامه. ولم تراعِ تهيئة ظروف التعايش بين من يتبادلون الكراهية والأحقاد التاريخية.في الحقيقة إن الخطة هي أمر واقع مؤقت تم فرضه من قاطن البيت الأبيض بقوة العين الحمراء، وهو الذي لا يمزح ولا يبتسم ولا يرحم، ولم يجد المتخاصمون، غير قبولها، من منطلق الخوف؛ لا الاقتناع.إن الصورة في إطارها العام مؤذية. المشهد مؤلم. لا أحد يسمع عن الأنقاض، ولا يعرفها كمن يراها، ومثل من يتعايش معها، لأنها ربما تتحول إلى مقبرته، التي تقاسم معها أيامه، وماضيه، ومستقبله، طفلا كان أو شيخا أو أما.والأم هي التي تتفهم أن الإنسان العاقل لا يقتل، إلا إن كان عمله القتل. تعي متى يذهب القتلة إلى ما يتقنون. والأم الغزاوية تحديدا، إن جفت دموعها، ردد لسانها: عودوا أنّا كنتم، غرباء كما أنتم، فقراء كما أنتم، بلا أرض ولا وطن ولا خريطة ولا مأوى ولا شخصية، أخذتم حصتكم من دمنا، اذهبوا وانصرفوا.تتألم لرؤية قفز الأطفال على ظهور شاحنات الإغاثة، للظفر بحفنة دقيق، أو أرز. تخاف شياطين السماء، وإرهاب الأصدقاء والأعداء، الشوارع والأرصفة ميتة. والمباني مهدمة. ذبلت زهور الياسمين وأغصان الزيتون.تستدعي الحاضر المرير، والذكريات المحترقة، وتتدبر، كيف دفع الآباء والأسلاف الثمن الكامل لصراع الفيلة.. وقصص الوحوش.