يحرضني...
الأربعاء / 23 / ربيع الثاني / 1447 هـ - 00:57 - الأربعاء 15 أكتوبر 2025 00:57
لطالما أعجبت بذلك الميل الفطري في النفس البشرية نحو حبك القصص؛ فالعقل، حين يعجز عن الفهم، يبتكر حكاية ترضيه، وغالبا ما تكون سردية متخيلة تمنح الفوضى معنى. وعندما يضطرب العالم تزدهر نظريات المؤامرة، كما تشير الدراسات النفسية، لأن الإنسان لا يحتمل الغموض، فيبحث عن طرف خفي يلقي عليه اللوم، ليشعر مؤقتا بأنه فهم ما يحدث وأمسك بخيوط السيطرة، خصوصا حين تتصدع الثقة بالمؤسسات والأنظمة.غير أن البشر يتفاوتون في تعاملهم مع هذا الغموض؛ فهناك من تمر عليه الأيام كغيم عابر فوق صحراء مشتاقة، وهناك من يرى في كل صدفة مؤامرة تحاك ضده. أما أنا، فيحرضني هذا العالم المربك على التساؤل: هل المؤامرة انعكاس لخوفنا الداخلي؟ وهل البشر حقا متآمرون؟ أم أنهم مجرد ضحايا لمؤامرة أكبر؟ أم أننا جميعا عالقون في تلك المسافة الرمادية بين الشك واليقين؟كم كان عمرك مثلا حين سمعت أول مرة عن المليار الذهبي Golden Billion؟قد تظنه اسم مسابقة تلفزيونية، أو مشروعا لصندوق استثماري، أو حتى مبادرة لتكريم الموهوبين والمتميزين. غير أن المفهوم لا علاقة له بالجوائز ولا بالأحلام، بل يشير إلى فكرة خبيثة تزعم أن نخبة محدودة من البشر تتحكم بثروات العالم ومصائر الشعوب، لتعيد تشكيل الكوكب بما يخدم مصالحها ويضمن رفاهها. ويقصد بالمصطلح ببساطة مجموعة من الدول الغنية التي تضم نحو مليار إنسان يعيشون في مستوى رفاه مرتفع مقارنة ببقية سكان الأرض، فقط لا غير. ربما تبتسم الآن ساخرا، كما يفعل البعض حين يناقشون نظريات المؤامرة داخل الاستراحات والمجالس... لكن تمهل قليلا؛ فالموضوع ليس بهذه البساطة.تعود القصة إلى القرن التاسع عشر، حين حذر توماس مالتوس من تضاعف السكان وتناقص الموارد، وتبنت حركات تحسين النسل (اليوجينيكس) هذا المنطق لاحقا لتبرير سياسات العزل والتعقيم الإجباري. ثم أعاد الكاتب الروسي أناتولي تسيكونوف عام 1990 إحياءها في كتابه مؤامرة الحكومة العالمية: روسيا والمليار الذهبي، زاعما أن الغرب يسعى لحصر الازدهار في مليار إنسان وترك البقية للفقر والتبعية.ومع تصاعد الأزمات العالمية، عاد الجدل حول النخبة والسكان إلى الواجهة. فخلال جائحة كوفيد 19 وحرب أوكرانيا، انتشرت فرضيات تربط الكوارث بمخططات لتقليص البشر. في عام 2022، وصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين «المليار الذهبي» بأنه نظام عنصري يقسم البشرية، لتتبنى موسكو هذا الخطاب في مواجهة الغرب، في مثال على تسييس اللغة الذي يتكرر عبر المعسكرات كلما تقاطعت المصالح.وفي المقابل، غذت بعض التصريحات تلك المخاوف؛ فحين قال المبعوث الأمريكي للمناخ جون كيري إن العالم سيجد صعوبة في تحمل عشرة مليارات نسمة، كانت تقديرات الأمم المتحدة UNFPA) 2024) تتوقع بلوغ سكان الأرض ذروتهم عند 10.3 مليارات ثمانينات هذا القرن. كما جرى اقتطاع كلمات بيل غيتس حول اللقاحات والصحة الإنجابية لتبدو كدعوة لخفض السكان عمدا، وامتزجت الحقائق بالظنون لتجد النظرية التآمرية أرضا خصبة بين خوف الشعوب وغموض خطابات النخبة، في عالم كثيرا ما يستغل فيه الجدل الديموغرافي لتبرير سياسات التحكم بمصائر البشر. يحرضني هذا التداخل المربك بين الحقيقة والوهم على التفكير في طبيعة الخطاب نفسه: كيف يتحول التخويف إلى أجندة، تغذي التوجس بشكل مستمر، وكيف يكون العجز عن العثور على المؤامرة دليلا على أنها في كل مكان.وبينما تهول مراكز القوة الدولية من خطر تزايد الأعداد، تتناقص مواليدها وتشيخ مجتمعاتها، فيما يواصل سكان الدول الأخرى نموهم بثبات. أما السعودية، فتمضي في الاتجاه التنموي، مستثمرة في الإنسان بوصفه رأس المال البشري الذي سيحرك الإنتاج والتنمية.وفي المشهد العالمي المزدحم بالتحولات، يعاد تعريف مفهوم «البقاء للأصلح» بمنطق التقنية والذكاء الاصطناعي اللذين قد يقلصان دور الإنسان، لكنهما في الوقت نفسه يحملان وعودا بإنقاذه وإنقاذ الكوكب من أزمات الغذاء والطاقة والمياه. ومع تصاعد المخاوف، تتحدث تقارير BBC ،Science Focus ،AOL عن بعض أثرياء العالم الذين يستعدون لهذا المستقبل ببناء ملاجئ سرية تحت الأرض، خشية انهيار محتمل تسببه ثورة الذكاء الاصطناعي. وهنا نتساءل: من سيحكم ومن سيحاكم؟ ومن ذلك الكذاب الأشر الذي يحول هذه الهواجس إلى أشباح فوضوية تتغذى على نظريات المؤامرة، في ظل غياب العدالة وشفافية ما يجري في هذا العالم؟خاتمة القول: كلنا يخاف الهيمنة، ويرتاب في النظام العالمي، ويريد أن يفهم... لكن عبث العالم يحرضنا تحريضا على مواجهته بوعي ويقظة، فالمناعة الفردية تبنى بالتفكير النقدي، وعدم الاستسلام لفكرة أن التآمر قدر محتوم. فكما يبتكر العقل قصصا ليفسر الفوضى، يمكنه أيضا أن يبتكر وعيا يحرره منها... وإن مكروا فالله خير الماكرين، وقد جعل لكل شيء سببا وقدرا.وسواء كانت فكرة «المليار الذهبي» خطة تدار في الخفاء أم فزاعة صنعتها المخاوف، تبقى أخطر الإغراءات، كما قال ألبير كامو، أن نصدق أن ما يحدث في العالم يمكن تفسيره بالكامل.smileofswords@