الرأي

حين يسقط الحرف... الإملاء آفة العصر

عبدالرحمن حسين فقيهي
لم يكن الإملاء يوما فنا ثانويا ولا مهارة مدرسية عابرة، بل كان على الدوام روح البيان ومفتاح الفصاحة، ووعاء المعنى الذي يحفظ جمال الكلمة ويصون وضوحها. وما زال التاريخ يشهد أن العرب لم يكونوا يفرطون في الحرف، فقد عدوه شرفا وديانة، إذ إن الخطأ فيه قد يغير المعنى ويشوه المقصود. وحين نزل القرآن بلسان عربي مبين، ازداد شرف الحرف قداسة، حتى أقسم الله بالقلم وما يسطرون، فقال: ﴿ن * والقلم وما يسطرون﴾، وقال: ﴿اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم﴾، فجعل القلم دليلا على العلم، وحارسا للمعرفة، ومظهرا للحضارة.غير أن واقعنا المعاصر يكشف عن صورة مؤلمة، إذ أصبح ضعف الإملاء آفة العصر، يتفشى في الرسائل والمقالات والتقارير، حتى في المكاتبات الرسمية والبحوث الجامعية، بل وحتى في كتابات بعض المثقفين. ولست تحتاج إلى كثير عناء لتقرأ نصا تعجبك فكرته وتستهويك معانيه، فإذا هو مثقل بأخطاء إملائية تجرد النص من رونقه، وتضعف أثره، وتسقط الكاتب من أعين قرائه. إن الخطأ الإملائي ليس مجرد زلة عابرة، بل هو انكسار للمعنى، وتشويه للفكرة، ودليل على التهاون بحق الكلمة. وما أكثر ما قال النقاد: إن أول امتحان يختبر به القلم هو سلامة إملائه.ولا يخفى أن وسائل التواصل الاجتماعي أسهمت في ترسيخ هذه الظاهرة؛ فصار كثير من الناس يكتبون كما ينطقون، بلا التفات إلى قواعد اللغة وضوابطها، حتى غدت الأخطاء مألوفة مستساغة، واعتادها الجيل الناشئ حتى صار يظنها صوابا. وهذا من أخطر ما يكون، إذ يربي أجيالا على لغة مشوهة، ويضعف صلتهم بالفصحى، ويجعل العربية غريبة في ديارها.إن الإملاء ليس ترفا لغويا، بل هو أمانة ومسؤولية، وحارس صامت للهوية. فأي خلل فيه يقود إلى ضياع الدقة في الفهم والتواصل، وإلى تشويه صورة الكاتب، وإضعاف مكانة العربية بين أهلها. وقد قال مصطفى صادق الرافعي: ما ذلت لغة شعب إلا ذل، ولا انحطت إلا كان أمره في ذهاب وإدبار، فكيف إذا كان الانحطاط يبدأ من الحرف الذي يفترض أن يكون أول موضع الاعتزاز؟إن المسؤولية في معالجة هذه الآفة جماعية مشتركة، تبدأ من المدرسة التي ينبغي أن تعيد الاعتبار لدرس الإملاء وتجعله ركنا أساسيا في التربية اللغوية، وتمتد إلى وسائل الإعلام التي يجب أن تكون قدوة للناس في سلامة الكتابة، وتشمل الكاتب والباحث الذي يتحتم عليه أن يراجع نصه قبل أن يقدمه للناس. وليس من العيب أن يخطئ المرء، ولكن العيب أن يكرس الخطأ، ويأنس به حتى يغدو عادة مألوفة.إن الحرف العربي ليس مجرد خط يرسم، بل هو تاريخ وحضارة ودين. وكل خطأ فيه هو ثغرة في جدار الهوية، وإهماله إهمال لجذورنا التي تربطنا بماضينا وحاضرنا. ولقد صدق شكيب أرسلان حين قال: إن الأمة التي تهمل لغتها أمة لا تستحق البقاء. ومن هنا فإن إحياء الإملاء وإعادة شأنه ليس ترفا فكريا ولا مطلبا مدرسيا، بل هو معركة هوية ووعي، وسبيل لحفظ لسان الأمة وذاكرتها.ختاما، إذا سقط الحرف ضاع المعنى، وإذا ضاع المعنى تهاوت الأمة من داخلها، فصونوا الكلمة لتصونوا أنفسكم.