رحلة العصفور القرمزي: نفس الريح
الثلاثاء / 22 / ربيع الثاني / 1447 هـ - 00:56 - الثلاثاء 14 أكتوبر 2025 00:56
ميلاد الريحفي فجوة شجرة عجوز، نسجت من الصمت والريح، ولد عصفور بغير لون مألوف. كان ريشه قرمزيا تطرزه خيوط تركوازية، تتناثر عليها لمعة مذهبة كأنها حبات فجر سقطت من كف الزمان. أسمته أمه: «نفس الريح»، فقد كانت تشعر أن فيه شيئا لا يشبه العش، ولا يرضى بالقفص.ما إن فتح عينيه حتى سأل:«لماذا نطير؟ وأين يذهب الحلم حين لا نلاحقه؟»ضحك أبوه وقال:«نحن نغني لننسى، ونطير لنعيش. لا تثقل جناحيك بأسئلة لا تجيب عنها السماء».ولكن العصفور لم يقنع. فحين اشتد جناحاه، حمل قلبه ومضى، باحثا عما وراء الأفق.الريح الأولى: مدينة الصمتهبط على سور مدينة مزدحمة بالناس، ولكنها بلا أصوات. الوجوه تبتسم، والشفاه تتحرك، ولكن الأرواح كأنها مطفأة.سأل شيخا عند بوابة السوق:«لماذا لا تتكلمون؟»فقال:«هنا... الكلام تهمة، والسؤال عيب، والحقيقة تهمس في السر، وتنسى في العلن».رد العصفور:«وكيف تحلق الأرواح إن كانت محبوسة في الصمت؟»ورحل.الريح الثانية: جزيرة السعادة المؤقتةفي جزيرة تغني، رأى ضحكا لا ينتهي، وأضواء لا تنطفئ، وقلوبا تلبس السعادة كما تلبس الأقنعة. حين غربت الشمس، رأى فتاة تبكي سرا.قالت له:«نضحك لأن الحزن لا يقبل بيننا. كلنا نبكي... ولكن دون جمهور».فهم العصفور:«السعادة التي تفرض كقانون، تصبح سجنا بباب ملون».الريح الثالثة: وادي الحكمفي واد أخضر، وجد شيخا ضريرا يضع أذنه على جذع شجرة.سأله العصفور:«ماذا تفعل؟»قال:«أصغي إلى ما لا يقال».قال العصفور:«أبحث عن معنى الحياة».فقال الشيخ:«الحياة لا تشرح... تعاش. كما الطيران: لا تعرف قوانينه حتى تلقي بنفسك فيه».«أخاف السقوط...» همس العصفور.«من لم يسقط، لم يعرف لذة الطيران».الريح الرابعة: مدينة الزيفقرر أن يعلم ما تعلمه. اصطحب ثلاثة عصافير صغار، وسافروا معا.أحدهم أراد المجد، والثاني القوة، والثالث معرفة نفسه.في مدينة الزيف، تباع الأجنحة، وتستأجر الأحلام، وتعطى البسمات مقابل الإنكار.العصفور الباحث عن المجد اشترى شهرة مقابل نسيان ماضيه، ولكنه لم يعد يعرف نفسه في المرآة، فطار مذعورا.العصفور الباحث عن القوة لبس جناحين صناعيين ضخمين، طار عاليا، ولكن دون توازن، فسقط في هاوية الصمت.أما الثالث، فجلس عند جدول ماء، نظر في انعكاسه، وسأل:«من أكون حين لا ينظر إلي أحد؟»وهناك، بدأ النور في عينيه يتقد.الريح الأخيرة: العودةعاد العصفور القرمزي إلى الغابة. لم يعد كما خرج. لم يحمل كنزا، ولا شهرة، بل حكما صغيرة تشبه قطرات المطر على ريش القلب.جلس على غصن عال، يراقب الغروب، وقال:«ما كانت الرحلة لتغير العالم، بل لتفتح نوافذ في قلبي».ثم التفت إلى الصغار حوله، وقال بهدوء:«الريح لا تصنع الطيران... القلوب هي التي تفعل. وأحيانا، نطير لا لنثبت قدرتنا، بل لنصغي لما تقوله السماء».ومضة الختامليس كل طائر يحلق قد فهم معنى الطيران، ولكن الذي يعود وفي جناحه سكون، وفي عينيه أثر سؤال... هو الذي غير الريح.