الرأي

تشوهات الإدراك القيادي: أخطر معوقات النضج المؤسسي...!

مطير سعيد الزهراني
يعد الإدراك القيادي أحد المكونات الجوهرية في بناء الوعي التنظيمي للمؤسسات، إذ يؤثر في طريقة تفسير القائد للسلوكيات واتخاذ القرارات وتوزيع الأدوار والمسؤوليات، وعندما يختل هذا الإدراك، تتحول المؤسسة من كيان يسير وفق معايير موضوعية إلى بيئة تتأثر بالانطباعات الشخصية والتقديرات غير المنضبطة، وهذه الحالة تعرف في الدراسات الإدارية الحديثة بتشوهات الإدراك القيادي، وهي من أكثر المظاهر التي تعيق الوصول إلى النضج المؤسسي.وتشوه الإدراك القيادي هو اضطراب في فهم القائد للبيئة المحيطة به، يؤدي إلى إصدار أحكام غير دقيقة على الأفراد والمواقف، ويظهر ذلك عندما تفسر القيم والسلوكيات الإيجابية بمعانٍ سلبية؛ فيعد الاحترام خوفا، والهدوء ضعفا، والكرامة ترفعا، والاعتراض تمردا، وهذه الأنماط من التفسير الخاطئ لا تعبر عن الواقع، بل عن حالة إدراكية غير ناضجة ناتجة عن ضعف الوعي الذاتي والافتقار إلى الفهم النفسي والاجتماعي لطبيعة العلاقات الإنسانية في العمل.ويرتبط هذا الخلل الإدراكي مباشرة بمستوى النضج المؤسسي، فالمؤسسة التي تضم قيادات غير قادرة على قراءة السلوك الإنساني بموضوعية، تتأخر في تحقيق العدالة التنظيمية الداخلية، وتفقد قدرتها على استثمار الطاقات البشرية بكفاءة، كما وتنشأ فيها ثقافة غير صحية تفضل المجاملة على الأداء، والانقياد الأعمى على التفكير، مما يؤدي إلى ضعف في الشفافية وتراجع في الإنتاجية والابتكار، كما يلاحظ في هذه البيئات أن الأفراد الذين يمارسون التملق أو يرفعون أصواتهم ينالون حظوة أكبر من أولئك الذين يحافظون على المهنية والاتزان، وهو ما يضعف الانتماء للمؤسسة ويفقدها توازنها القيمي.إن النضج المؤسسي في جوهره ليس اكتمال اللوائح والأنظمة، بل هو قدرة المنظمة على بناء بيئة عمل عادلة تستند إلى معايير واضحة في الحكم على الأداء والسلوك، ويتحقق هذا النضج حين يمتلك القائد وعيا إدراكيا متزنا يجعله قادرا على الفصل بين الشخص والسلوك، وعلى التمييز بين النقد البناء والهجوم الشخصي، وبين الاحترام المهني والخوف من المسؤول، وكلما اتسعت عدسة الإدراك، ارتفعت جودة القرار، وتقلصت مساحة الانحياز والتأويل الخاطئ.ولمعالجة هذا الخلل، من الضروري إعادة بناء منظومة الوعي القيادي عبر التدريب على الذكاء العاطفي والإدراك التنظيمي، وتفعيل قنوات التغذية الراجعة الصادقة التي تمكن المرؤوسين من إبداء وجهات نظرهم حيال معايير الأداء والسلوك دون خوف، إلى جانب تطوير أنظمة تقييم الأداء لتكون مبنية على البيانات والمؤشرات لا على الانطباعات، وكما ينبغي أن تتبنى المؤسسات سياسات واضحة تحمي العدالة التنظيمية الداخلية وتمنع استغلال المناصب أو تفسير السلوك الإيجابي بصورة خاطئة.إن تشوهات الإدراك القيادي تمثل أحد أخطر معوقات النضج المؤسسي، لأنها لا ترى بسهولة ولا تقاس بالأرقام، بل يستدل من آثارها على المناخ الداخلي والعلاقات المهنية ومستوى الرضا الوظيفي، لذلك فإن تطوير الإدراك القيادي يعد أولوية لأي مؤسسة تسعى إلى تحقيق التوازن بين الكفاءة الإنسانية والفعالية التنظيمية، فالقائد الذي يفهم الإنسان كما هو، لا كما يتصوره، هو القادر على بناء مؤسسة ناضجة، عادلة، ومتماسكة.