العقود المضمنة في النوايا: كيف تضل الحقوق طريقها قبل التوقيع؟
الاثنين / 21 / ربيع الثاني / 1447 هـ - 03:04 - الاثنين 13 أكتوبر 2025 03:04
في كثير من المشاريع الصغيرة، تبدأ الحكاية بكلمة طيبة، ونية حسنة، وحماس مشترك. يجتمع صديقان في مقهى أو زميلان في مكتب العمل، فيرسمان أحلامهما على الورق المنزلي: 'نفتح متجرا الكترونيا؟'، 'نستورد بضائع من الخارج؟'، 'نؤسس تطبيق توصيل!'. يتحدثان بلهجة يملؤها التفاؤل، وكأن الاتفاق بينهما بات أقوى من أي عقد، متناسيين أن السوق لا يعرف النيات، بل يحكمه ما كتب ووقع.تلك العقود المضمّنة في النوايا هي أخطر مراحل المشروعات الناشئة، لأنها تبنى على الثقة الشخصية لا على التوثيق النظامي. ما دام المشروع صغيرا والربح قليلا، تبقى الأمور بخير. لكن ما إن تبدأ الأموال بالدخول أو يتأخر السداد أو تختلف الرؤى، حتى تنقلب النية إلى نزاع، والصداقة إلى خصومة.ولنا في القصص عبرة، رائد أعمال شاب اتفق مع مصمم على تأسيس منصة الكترونية للتجارة في الهدايا. اتفقا على أن يكون الأول ممولا والثاني شريكا بالجهد، واتفقا 'شفهيا' على أن العقد سيكتب لاحقا بعد الانطلاق. المشروع نجح بسرعة، وبدأت الأرباح تتدفق. لكن حين طلب من المصمم تحديد حصته رسميا، قال 'أنا شريك، ولدي رسائل تثبت الاتفاق'. بينما الممول قال 'لم نوقع شيئا'.!القضية وصلت للمحكمة التجارية. القاضي استند إلى المادة (92) من نظام المعاملات المدنية التي تقرر أن العقد شريعة المتعاقدين، لكنه واجه إشكالا: لا يوجد عقد مكتوب! فاعتمد على الرسائل النصية والقرائن لإثبات النية، لكن النزاع طال شهورا لأن النية لا تكفي لتحديد النسبة ولا لتفسير الالتزامات.لو أن الطرفين وقعا عقدا بسيطا منذ البداية، لكان النزاع انتهى قبل أن يبدأ. فالقانون يحترم النية، لكنه لا يحكم إلا بالبينة.خذ هذه القصة الثانية في إحدى المحافظات، قررت امرأتان البدء بمشروع منزلي للطبخ المنزلي. اتفقتا على اقتسام الأرباح بالمناصفة، واتخذتا المطبخ المشترك مقرا. مرت الشهور، ثم نشب خلاف حول تكلفة المكونات ومن التي تتحمل الخسائر. حين حاولت إحداهن توثيق الاتفاق قالت الأخرى 'ما بيننا، أخوة، ما نحتاج ورق!'. بعد عام، تفكك المشروع، ورفعت الأولى دعوى للمطالبة بحقها في المعدات والاسم التجاري.القاضي ناظر هذه القضية، استند إلى المادة (52) من نظام المعاملات المدنية التي تشترط أن يكون محل العقد معلوما ومحددا. وبما أن الاتفاق لم يوضح لا رأس المال ولا الحصص، اعتبر باطلا من حيث الأثر، وعادت كل واحدة بخسارة، بعدما كان يمكن للعقد أن ينقذ المشروع والعلاقة معا.ومن أجمل ما في النظام السعودي أنه لا يعاقب على الحلم، لكنه لا يتركه بلا ضوابط. فالقانون لا يجرم الاتفاقات الشفهية، لكنه يجعل إثباتها عبئا على من يدعيها. لذلك، من يبدأ مشروعا بنية التوثيق 'لاحقا' يعيش بين أملين: أمل النجاح، وخوف الانهيار.لذا لو لاحظنا أن المادة (138) من النظام نصت على أن 'كل من لحقه ضرر من فعل غير مشروع له الحق في التعويض'. والمعنى أن من أخطأ بإهمال التوثيق ثم تضرر، له أن يطالب بالتعويض، لكن الطريق مليء بالعقبات. فكيف تثبت حقك إذا لم تكتب التزاما؟ وكيف تطلب عدلا إذا جعلت كل شيء في خانة 'النية الطيبة'؟إن النظام السعودي لا يمنع الاتفاقات الحرة، لكنه يوجهها نحو الصياغة الصحيحة. ولهذا جاءت وزارة التجارة ومنصة مراس لتسهل إنشاء العقود الكترونيا دون تكلف. لم يعد التوثيق صعبا كما في السابق، ولا يحتاج إلى محامٍ في كل مرة، بل إلى وعي قانوني بسيط.فالعقد ليس علامة على سوء الظن، بل شهادة على صدق النية.والنية الطيبة بذرة، لكنها لا تثمر إلا في أرض التوثيق. فالمشاريع التي تبنى على النيات وحدها كبيوت الرمل، تنهار عند أول موجة من الخلاف. القانون لا ينتصر لأحد الطرفين بقدر ما ينتصر للنظام نفسه؛ للكتابة، وللشفافية، وللأمان.من أراد أن ينجح في مشروعه، فليجعل العقد أول خطوة لا آخرها، وليكتب وهو في أوج ثقته، لا بعد أن تكسر. لأن الورق في عالم المال ليس جفاء، بل حفظ للود، وإقرار بالحق، وباب يغلق على النزاع قبل أن يفتح.expert_55@