مشكلة حماس: السلاح أم الميثاق؟ قراءة في فلسفة المقاومة وحدود التحول السياسي
الاثنين / 21 / ربيع الثاني / 1447 هـ - 02:58 - الاثنين 13 أكتوبر 2025 02:58
في قلب التجربة الفلسطينية المعاصرة تبدو حركة حماس نموذجا معقدا للصراع بين المقاومة والسياسة، بين الالتزام بالمبادئ وإدارة الواقع، وبين السلاح والميثاق. فالموقف الذي اتخذته الحركة منذ تأسيسها يعكس صراعا داخليا بين هويتها كحركة مقاومة مسلحة وبين دورها كسلطة سياسية مسؤولة عن حياة الناس وإدارة الشأن الوطني بالذات بعد 2007. هذه الثنائية تطرح سؤالا محوريا: هل تكمن أزمة حماس في امتلاكها السلاح، أم في الميثاق الذي يحدد وظيفة هذا السلاح وحدود شرعيته؟الإجابة عن هذا السؤال: تتطلب قراءة دقيقة لتاريخ الحركة، لفلسفة مقاومتها، ولتجاربها العملية في الانتفاضات الفلسطينية ولحظة دخولها في المؤسسات الحكومية. فهي ليست مجرد قضية فلسطينية محلية بل تجربة تلخص تحديات أي حركة مقاومة تواجه مهمة الانتقال من خطاب التحرير إلى بناء الدولة ومن رمزية البندقية إلى إدارة السلطة.وعودا على مشكلة السلاح أم الميثاق؟ نجد أن حركة حماس منذ تأسيسها شكلت معادلة مركبة بين العقيدة والسياسة، بين الميثاق والسلاح. فهي لم تعرف كتنظيم سياسي فحسب بل كحركة تحرر مسلحة استمدت مشروعيتها من مبدأ مقاومة الاحتلال. غير أن مرور الزمن كشف عن مأزق أعمق من مجرد جدلية «الحكم والمقاومة»، إذ برز سؤال أكثر جوهرية: هل أزمة حماس في سلاحها، أم في ميثاقها؟الميثاق منحها الشرعية الرمزية في الوعي الفلسطيني بينما منحها السلاح الشرعية العملية في ميدان الصراع. لكن الخلل بدأ عندما تحول السلاح من وسيلة إلى غاية، ومن أداة مقاومة إلى معيار لقياس الوطنية. فأصبح امتلاك السلاح هو ما يمنح الشرعية لا الرؤية أو الإنجاز أو القدرة على صياغة مشروع سياسي جامع.قد يتبادر إلى الذهن أن اكتساب الكفاح المسلح هذه المكانة المركزية في الفكر السياسي الفلسطيني يعود إلى غياب الإطار الفلسفي الناظم لفكرة المقاومة ذاتها. فالمقاومة ليست فعلا واحدا بل طيف من الأفعال يتراوح بين العمل المسلح والمقاومة المدنية والسياسية والثقافية. غير أن غياب هذا الوعي الفلسفي جعل السلاح يبدو وكأنه الطريق الوحيد للخلاص، الأمر الذي همش أي محاولة لتجديد معنى المقاومة أو تطوير أدواتها.وهذا ما انعكس تاريخيا في انتفاضة عام 1987، التي بدأت بمظاهرات سلمية سرعان ما تحولت إلى طور العمل المسلح. وتكرر المشهد في انتفاضة عام 2000 عندما تحولت الهبة الشعبية لنصرة الأقصى إلى مواجهة مسلحة. كان يمكن لتلك الانتفاضات أن تكرس نموذج المقاومة الشعبية المنظمة لكنها انزلقت بسرعة إلى منطق السلاح دون أن تستكمل بناء البنية الفكرية أو التنظيمية للمقاومة السلمية.إن مقاومة المحتل حق مشروع كفلته المواثيق والأعراف الدولية وأقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها رقم 3214 لعام 1974 الذي نص على حق الشعوب في النضال بجميع الأشكال بما فيها الكفاح المسلح من أجل نيل الحرية والاستقلال وحق تقرير المصير. لكن المقاومة «رغم مشروعيتها» ليست نمطا واحدا بل عملية متدرجة تتحدد وفق مقتضيات الموقف وتوازنات القوى المحلية والإقليمية والدولية. فالمشكلة لا تكمن في شرعية الكفاح المسلح بل تكمن في جعله خيارا وحيدا مقدما على كل أدوات الفعل الأخرى.لقد وقعت حماس في هذا الفخ حين جعلت استخدام السلاح أولوية مطلقة دون اعتبار لتغير موازين القوى أو تطور البيئة السياسية، فبدل أن يكون السلاح أداة تفاوضية ضمن استراتيجية مقاومة شاملة، تحول إلى هوية مغلقة تحكم الفعل السياسي للحركة وتختزل فكرة التحرير في البعد العسكري وحده.من المقاومة إلى الدولة: مأزق التحول حين دخلت حماس الانتخابات التشريعية عام 2006، كانت أمام لحظة تاريخية فاصلة: كيف تنتقل من منطق «المقاومة» إلى منطق «الدولة»؟ لم يكن ذلك مجرد تحد تنظيمي بل اختبار فلسفي في جوهره. فالمقاومة تقاس بقدرتها على الإزعاج، بينما تقاس الدولة بقدرتها على البناء. المقاومة تعلي من صوت المواجهة أما الدولة فتقوم على إدارة الصراع وتحويله إلى توازنات واستراتيجيات طويلة الأمد.هنا واجهت حماس معضلة حقيقية: كيف تجمع بين وظيفة البندقية ووظيفة المؤسسة؟ الدخول في منظومة الحكم كان يقتضي «مراجعة الميثاق» وموقع السلاح داخل المعادلة السياسية، لكن الحركة تمسكت بالثنائية التي تأسست عليها: ميثاق جامد وسلاح مقدم على السياسة. وهكذا أصبحت أسيرة معادلة تضعفها من الداخل: فهي لا تستطيع أن تتخلى عن السلاح دون أن تفقد هويتها ولا أن تمارس الحكم بفاعلية دون أن تتجاوز منطقه.لقد كان بإمكان حماس أن تصوغ نموذجا جديدا يجمع بين الشرعية النضالية والشرعية المؤسسية، لو أنها أعادت تعريف المقاومة بما يتناسب مع متغيرات الواقع الفلسطيني والإقليمي والدولي. فالمقاومة ليست مجرد رد فعل بل رؤية حضارية يمكن أن تتجسد في السلاح كما في الوعي، في التنمية كما في المواجهة. غير أن الإصرار على اختزالها في بعدها العسكري جعلها تفقد قدرتها على التكيف، بل وجعلها رهينة «لتوازنات خارجية» لا تملك السيطرة عليها.من هنا فإن مأزق حماس لا يكمن في ميثاقها وحده ولا في سلاحها وحده بل في العلاقة المغلقة بينهما: ميثاق لا يتجدد وسلاح لا يتراجع. وحين تغيب المراجعة الفكرية تتحول المقاومة من مشروع تحرري إلى بنية أيديولوجية جامدة يصبح فيها الدفاع عن السلاح دفاعا عن الهوية لا عن الوطن، ويتحول مبدأ «تحرير الأرض» إلى «احتكار الحق في القتال».الرؤية قبل القوة: خلاصة تجربة حماس توضح أن السلاح وحده لا يصنع السياسة وأن النص وحده لا يكفي لصياغة المشروع الوطني. الطريق الأمثل هو الجمع بين الرؤية السياسية الواضحة والتدرج في استخدام القوة كأداة لتحقيقها، لا كغاية في ذاته. المقاومة لتكون فعالة ومستدامة يجب أن تخضع الوسائل للرؤية، وأن تتدرج بين العمل المسلح والسياسة والتنظيم المدني حسب مقتضيات المرحلة.بهذه الرؤية يمكن للحركة أن تحول الإرث النضالي إلى مشروع وطني متوازن يحقق الحرية والاستقلال، ويحول القوة إلى أداة للبناء لا إلى رمز للعنف بحد ذاته. فكل قوة تحتاج إلى هدف واضح وكل هدف يحتاج إلى وسائل مناسبة، وهنا يكمن الفرق بين منطق المقاومة الفاعلة ومنطق «الانغلاق الأيديولوجي».الخلاصة: تجربة حماس تثبت أن المقاومة وحدها لا تكفي لبناء مشروع وطني مستدام، وأن السلاح بلا رؤية سياسية واضحة يتحول إلى عبء أكثر من كونه أداة. التحول من المقاومة إلى الدولة يتطلب مرونة في التفكير وإعادة تعريف دور السلاح ضمن استراتيجية وطنية شاملة توازن بين الرؤية السياسية والوسائل العملية.الدروس المستفادة: القوة بلا رؤية واضحة تفقد قيمتها، والرؤية بلا قوة تفقد القدرة على تحقيقه. لذا: النجاح في أي مشروع وطني يحتاج إلى الجمع بين رؤية واضحة وبين وسائل فعالة لتنفيذها، مع مراعاة التدرج في أدوات النضال وفق توازنات القوى المحلية والإقليمية والدولية. وهنا يكمن الفرق بين منطق المقاومة الفاعلة ومنطق «الانغلاق الأيديولوجي»، وبين الحركة التي تحمي هويتها وبين تلك التي تحقق وطنها.TurkiGoblan@